حصاد الحصاد

كل المؤشرات توحي بأن الجزائر ستنتج هذا الموسم كمية من الحبوب غير مسبوقة، إن لم تحقق بها الاكتفاء الذاتي من هذه المادة الحيوية والسيادية، فإنها تقترب جدا من هدف كان حلما بعيد المدى، وسيتحقق.
الجميل في الحكاية، ليس في الكمية التي ضمنت، إلى حد الآن، الاكتفاء الذاتي، وربما التصدير في القمح الصلب، وإنما في الأجواء الاحتفالية التي صارت تقام فيها حملات الحصاد، بعد أن وفّرت كل الضروريات لإنجاحها، من حاصدات ومخازن ومتابعة علمية وتقنية، وغيرها من المساعدات التي فاجأتنا بأرقام إنتاج، بعضها أثار الدهشة والفخر كما هو الحال في ولاية ورقلة التي حققت إنتاجا تطرّقت إلى نوعيته وكميته، مجلات الفلاحة العلمية العالمية، معتبرة إياه حدثا زراعيا متميزا في العالم.
والجميل أيضا هو أن الاهتمام بحدث الحصاد لم يتوقف عند رئيس الجمهورية فقط، الذي راهن على الأمن الغذائي في كل خرجاته الإعلامية وفي أفعاله، ولا في وزارة الفلاحة التي رافقت أهل المهنة من خلال توفير الماء والكهرباء والمهندسين ووسائل النقل والتخزين وحتى التغطية الإعلامية، التي أثارت صورها الغيرة لدى مرضى النفوس المصابين بالغباء الطبيعي في زمن الذكاء الاصطناعي، وإنما أيضا في اهتمام عامة الناس ممن لا علاقة لهم بالفلاحة، الذين صاروا يسألون عن الكمية المنتجة، وما أعطته أرض الصحراء بالخصوص من خيرات وهم مفتخرون بما صار يتحقق، في استقلال غذائي لا يقل أهمية عن الاستقلال الذي حققته الجزائر ذات الخامس من جويلية من سنة 1962.
هناك من ربط العداء الذي أظهرته أطراف فرنسية للجزائر في الفترة الأخيرة، بالنجاحات الاقتصادية التي حققتها البلاد بالتعاون مع قوى جديدة، وفي تضييع لغة فرنسا مكانتها بين بقية اللغات، في بلاد كانت تعتبرها فرنسا حاضنة للغتها أكثر من كل بلاد الدنيا. ولكن الحقيقة، أن توقُّف الحاويات القادمة من فرنسا تحمل القمح إلى الموانئ الجزائرية، هو من أشعل النار في أفئدة الذين يحنّون إلى قيود الاستعمار، وعندما تعلن الجزائر ذات موسم قريب جدا اكتفاءها الذاتي في إنتاج الحبوب بكل أنواعها ومادة الحليب، سيصاب الطرف الفرنسي بمغص مزمن، ويدخل في كآبة حادة، لن تختلف عن مغص وكآبة الفاتح من نوفمبر 1954.
في عالم الفلاحة، القمح لا يشبه البطاطا والخس والفراولة وفاكهة الأناناس، فإذا كانت بقية البقول والخضر والفواكه وحتى الحليب والزيت والسكر والبن، تملأ الموائد والبطون، فإن القمح يرسّخ الأمن الغذائي ويمنح الطمأنينة والحرية، وأي تقدّم فيه هو تقدّم سيادي وله أبعاد اقتصادية واجتماعية ونفسية تضع المنتصر في معركة الغذاء منتصرا في كل المجالات وأكثر من ذلك حر، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
تؤرخ الكثير من الشعوب افتتاح سنواتها بمواسم الفلاحة من حرث وحصاد، وتعتبرها الجامع لأهل الوطن، وتحقيق الجزائر للاكتفاء الذاتي في إنتاج الحبوب قريبا، سيكون حدث الحدث وحصاد الحصاد وحرية الحرية.
قرأنا في القرآن الكريم كلمات “القطاف والداس والجذاذ”، وكلها تعني نعمة الحصاد، وشبّه القرآن الكريم إنفاق المال في سبيل الله مثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء.
وعاشت الأمم وافتخرت بتمكّنها من غذائها ومنها من استعمرت بلادا بما توفره من حبوب، ومنها من استعمرت بما لا تحققه من حبوب.