حـزب الله يثــــأر.. واللبنانيـون يـردون بالصمــود
بيروت تحت القصف والغارات الإسرائيلية أتت على كل المنشآت التحتية هنا، لتستحيل خضرة البلاد وأرزها إلى دمار تام، الموت تزحف لليوم الرابع عشر ولا حديث سوى عن المغادرة، فاللبنانيون يتحسرون على بيروت التي كانت يوما ما مقصد الجميع، لكنها انقلبت رأسا على عقب بفعل الصواريخ الإسرائيلية. لم يكن سهلا اجتياز الحدود السورية اللبنانية بالأمس. وبينما تراجعت صحفية ألمانية رفقة مصورها عن دخول لبنان، فضلت المجازفة لأجد نفسي رفقة سائق سيارة الأجرة التي استقليتها بعد طول توسل، تائها في الضاحية الجنوبية التي لم أغادرها إلا دقائق قبل بداية الغارات الإسرائيلية أمس.رشيد ولد بوسيافة
بدا من الصعب والمستحيل العثور على سيارة لدخول بيروت على طول الحدود السورية اللبنانية وبينما كانت وفود اللاجئين اللبنانيين تغادر إلى سوريا، كنت أبحث عمن يستطيع مساعدتي أمام استغراب الجميع وخوفهم مني، وبإلحاح وتوسل كبير أقنعت عائلة لبنانية مقيمة على مستوى الحدود وفي البقاع بالضبط، بمد يد العون لي، هذه الأخيرة أدركت أن الأمر يتعلق بصحفي جزائري جاء لاستطلاع الحقيقة ونقلها لا غير بعد أن ترددت كثيرا في قبول الفكرة، فالأمور استثنائية وأي مجازفة بالمنطقة يعني خطوة باتجاه الموت المحقق.
امتطيت سيارة مرسيدس، كان يقودها شيخ متقدم في العمر رفقة ابنته وتوجها بي وهما يتناوبان على المقود إلى منطقة تدعى المصنع وهناك تمكنا من إقناع صاحب سيارة أجرة بإيصالي إلى بيروت العاصمة.
قبل وصولي إلى بيروت، وفي سوريا نصحني من التقيتهم في وزارة الإعلام بضرورة مرافقة القافلات المحملة بالمؤونة والمواد الغذائية، لان الطيران الإسرائيلي لا يستهدفها، لكن الطريق الطويل وعلى مدى أربع ساعات من الزمن مع السائق الشاب وعبر الأحراش، اكتشفت فيه حقائق أخرى غير تلك التي سمعتها.
لم يسلك السائق اللبناني الأصل الطريق المعروفة والمعهودة بسبب القصف، لكنه سلك طريقا أخرى عبر الأحراش والممرات الصعبة والوعرة، وعلى طولها كانت آلة الدمار الإسرائيلية قد فعلت فعلتها، سيارات مدنية مدمرة عن آخرها وقافلات محملة بالفرينة مستهدفة ولم يبق منها شيء، فلا المساعدات تدخل ولا شيء من ذلك يصل إلى اللبنانيين الذين فضلوا البقاء في ديارهم شرق العاصمة اللبنانية بيروت.
الطريق خالية من الحركة ولا صوت سوى صوت محرك السيارة وتأوهات السائق، بل وبكاؤه على جمال لبنان الذي ضاع ولم تبق منه سوى الأطلال، أشار لي بيده هناك، في هذا الجبل كنت أقضي المصيف مع عائلتي الصغيرة، لكنهم قتلوا أحلامنا، فما عاد بالإمكان تصديق أو تصور ما يحصل للبنانيين اليوم، على يد إسرائيل فيما يتفرج العام ويستمتع بذلك.
حمل شعور السائق اللبناني صاحبه إلى ذرف الدموع وهو يرمي ببصره إلى المناطق المقصوفة وكأنه يتذكر شيئا جميلا، غاب إلى الأبد، لم أرد دغدغة إحساسه ولا سؤاله، لكنني تابعت الاستماع إلى لبناني يتألم من ضربات موجعة تستهدف القضاء على اللبنانيين قبل المنشآت والبنى التحتية.
بالضاحية الجنوبية للبنان
وفي غضون ذلك، اكتشفت رفقة السائق الذي تاه في ذكرياته وفي أحزانه على وطنه وهو يتحطم وينهار يوما بعد يوم، اكتشفت أن السائق لا يعرف الطريق وأننا تائهين. وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، أكثر المناطق استهدافا من قبل المقاتلات الاسرائيلة، كان المشهد غاية في التأثير، فالحركة منعدمة ولا تلحظ شيئا غير الدخان المنبعث من الحطام الذي أحدثته الصواريخ المتساقطة في كل مكان.
دقائق بعد ابتعادنا عن الضاحية الجنوبية لبيروت وتقدمنا نحو مركز المدينة، توالت الغارات الإسرائيلية على المنطقة، كان وقعها مخيفا وبلغ عددها عند الساعة الثالثة من مساء أمس، عشر غارات كاملة، لم تُبْق على شيء، لقد دمرت بيروت لؤلؤة الشرق، لتقلبها دمارا وخرابا على من فيها.
والصواريخ تسقط على الضاحية الجنوبية وعلى بيروت، على سكانها وبناياتها وعماراتها، أوصلني السائق إلى فندق قوريغاج بقلب بيروت وهناك اندهش من التقيتهم بوصولي سالما وأكدوا لي أن لا أحد دخل أمس، بيروت بعد أن قطعت الطريق وما عاد أصحاب سيارات التجارة يتجرأون على سلك الطريق ذاتها مهما كان الثمن ومهما دفع الزبون من دولارات.
كل غرف الطوابق السفلى بالفندق محجوزة، فيما كل الغرف بالطابق العلوي شاغرة، فجميع المقيمين تجنبوها، خوفا من استهدافها من قبل الصواريخ الإسرائيلية. وبما أنني لا أملك الخيار حجزت غرفة وبحثت عن شيء يؤكل وقد مضى علي يومان لم أذق فيهما شيئا، لا اثر لحركية البيع ولا الشراء، وعلى مرمى حجر من الفندق ومن الشرفة لا يتراءى لك شيء سوى الدخان والدمار والركام الذي خلفته الغارات، التي لا تفرق بين اليابس والأخضر وبين المدني والعسكري وبين البنايات التحتية والثكنات العسكرية.
بيروت أمس، ظهرت وكأنها عاصمة للأشباح، هي صامتة بلا حركة، لكنها تتألم من وقع الصدى والدوي الذي توقعه الصواريخ كلما غارت الطائرات الاسرائيلية عليها، يتذكر اللبنانيون أن هذا المكان كان يؤمهم وذاك كانوا يقضون فيه سويعات الراحة وهناك كانوا يبتاعون مشترياتهم، كلها أماكن ومقار انهارت ولم تعد تسكن غير مخيلة اللبناني الذي ما عادت تهمه اليوم سوى المغادرة من جحيم خرب غير متكافئة.