حفلات أعراسنا.. ودمعات أطفالهم!

الحقّ يقال إنّنا لو أعدنا النّظر في موقفنا من أحداث غزّة بمنطق الواجب الدينيّ والأخوّة الإسلاميّة، لأدركنا أنّنا على تفريط عظيم في حقّ إخواننا، يصل إلى حدّ الخذلان الذي جاءت نصوص الوعيد تحذّر منه؛ فبرغم كلمات الأسى والأسف التي نردّدها في جلساتنا ونكتبها على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وبرغم اللائمة التي نلقيها على الحكّام عامّة وعلى حكّام الدول القريبة من فلسطين خاصّة، فإنّه لا يكاد يوجد بيننا من لم ينزل درجةً عن المستطاع والمقدور إلى ما هو دونه!
بيننا كثير من أرباب الأموال، وممّن يجدون سعة في أرزاقهم، أقعدتهم أنفسهم عن “جهاد المال”، وفوّتت عليهم واجبا عظيما لا يُعذرون بتركه، خاصّة في بلدنا الجزائر الذي يُثمّن كلّ جهد لدعم المقاومة وإغاثة المحاصرين؛ قعدوا عن واجبهم، ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع القاعدين المتحسّرين في جلسات المقاهي وعلى مواقع التواصل، وهم الذين يخطّطون لبذل أجلّ النفقات في عطلة الصّيف.. إذا كان إيمان العبد لا يكتمل إلا بالإنفاق من المال الذي تحرص عليه نفسه ويحتاج إليه في ضروريات عيشه، لقول الله تعالى: ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون))؛ فكيف بمن يجد فضلا من المال زائدا عن حاجاته الأصلية؟
بيننا كثير من المتحسّرين على مواقع التواصل، لا يجدون من أنفسهم وأهليهم أدنى استعداد للتخلّي عن بعض الكماليات والمباحات، مراعاة لما يعيشه إخوانهم في غزّة من مجاعة وتشريد وقتل وحرق وتقطيع، ولا يستطيعون مقاطعة كثير من البضائع والسلع التي تنتجها الشركات الداعمة للكيان الصهيونيّ المحتل؛ لا لشيء إلا لأنّهم وأبناءَهم قد ألفوا تلك السّلع وصارت جزءًا من حياتهم ويومياتهم!
والأدهى من كلّ ما سبق، أنّ بيننا كثيرا من المتحسّرين الذين يلعنون اليهود صباح مساء، وحُقّ لهم أن يلعنوهم، لكنّ أنفسهم لا تطاوعهم في ترك المحرّمات، طاعة لله أولا، ومراعاة للمأساة التي يعيشها إخوانهم المسلمون ثانيا! ولعلّ بالمثال يتّضح المقال:
نحن الآن نعيش أيام الصيف، وفيها يبدأ موسم الأعراس والشّواطئ؛ فكم بيننا من يملكون الاستعداد ليتبنّوا هذا العام شعار “أعراس من دون سهرات صاخبة، لأجل غزّة” ويروّجوا له؟ كم بيننا من يستطيعون مجاهدة أنفسهم وأهليهم وأصدقائهم للتخلي عن “الديسك جوكي” والأوركسترا” في حفلات أعراسهم المبرمجة في قابل الأيام والأسابيع، أو احتفالاتهم المضمرة بنجاح أبنائهم، مراعاة لما يكابده إخوانهم في فلسطين؟
حرام ومنكر، أن نُصرّ على إحياء حفلات أعراس صاخبة ترتفع فيها الأصوات بكلمات الحبّ والغرام وتمجيد العلاقات المحرّمة والتباهي بمعاقرة الخمور، بينما إخواننا يموت أطفالهم جوعا وتتكدّس أشلاؤهم في الشوارع! صيف غزّة ربّما يكون صيف عطش وجوع، وإرهاب ودموع، ولياليهم قد تكون ليالي دماء وأشلاء؛ فهل يليق أن تكون أيام صيفنا عُريا وبذخا على الشّواطئ، وتكون ليالي صيفنا أغاني وسهرات وأصوات منكرة؟!
قبل سنوات قليلة، كان الجار لا يجرؤ على إحياء حفلة عرس صاخبة، إذا كان جاره قد رزئ بوفاة حميم أو قريب، لكنّنا الآن نرى مسلمين تطيب أنفسهم بإحياء حفلات أعراس تكون الكلمة العليا فيها للشّباب العابثين والفتيات العابثات! وتُسمع فيها كلمات يندى لها الجبين! في وقت ترتفع فيه أصوات الجوعى والمكلومين في غزّة بالحسرة والأنين!
قد يظنّ البعض أنّها مفارقة عابرة، وأنّ الواقع فيها مذنب ذنبا صغيرا تغفره كلمات تأييد لغزّة يقولها في جلسة مقهى أو يكتبها على مواقع التواصل. ولكنّ الحقيقة أنّ الجرم أعظم ممّا يُظنّ، لأنّه يتعلّق برقص مسلم على جراح أخيه المسلم! وإذا كان من يسكت عن سفك دم مسلم ويشيح ببصره عن مظلمته، مُتوعَّدا بخذلانٍ من الله في وقت يحتاج فيه إلى النصرة؛ فكيف بمن تصل به اللامبالاة إلى حدّ إظهار الفرح بمعصية الله في وقت يُجوّع فيه أخوه ويُسال دمه؟
من واجبنا أن نستنكر إصرار بعض الدّول المسلمة على إحياء “حفلات الترفيه” التي تعربد فيها المغنيات الماجنات، في وقت يصبح فيه المسلمون في غزّة وهم يبكون أبناءهم الذين قضوا بسبب الجوع، ويهرعون لانتشال جثث شهدائهم من تحت الأنقاض التي خلّفها القصف الصهيونيّ.. لكن من واجبنا كذلك أن نتقي الله في أفراحنا التي تتزامن مع مأساة إخواننا، فتكون أفراحا تقصر في المباحات ولا تقترب من المحرّمات.
إذا لم نضبط أفراحنا بحدود الله في مثل هذه الأيام العصيبة التي تمرّ به أمّتنا، فمتى نضبطها؟ وإذا لم نحيِ رابطة الجسد الواحد في مثل هذه السّنوات، فمتى نحييها؟ جميعنا نحفظ حديث النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، لكن أين هذا الحديث من واقعنا؟