-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حقوق العمّال بين حضارة الغرب وحضارة الإسلام

سلطان بركاني
  • 509
  • 0
حقوق العمّال بين حضارة الغرب وحضارة الإسلام

أحيت أكثر دول العالم الخميسَ الماضي اليومَ العالمي للعمّال الموافقَ للفاتح من شهر ماي، الذي يعدّ مناسبة لتثمين النضال لأجل حقوق العمّال، حتّى ينال كلّ عمّال العالم حقوقهم الإنسانية ويتخلّصوا من العبودية التي ترهن حياتهم بأجور بخسة دراهم معدودة.. وقد كانت بدايات هذه المناسبة بتاريخ 1 ماي 1886م، حينما نظم ما لا يقلّ عن 400 ألف عامل في شيكاغو الأمريكية إضرابا يطالبون من خلاله بخفض ساعات العمل، رفعوا فيه شعار “ثمان ساعات عمل، ثمان ساعات نوم، ثمان ساعات فراغ للراحة والاستمتاع”.

جُوبِه إضراب العمّال يومها بالعنف من قبل السلطات، بتحريض من أرباب العمل وأصحاب الشركات، وقُتل عدد من العمال، وجُرّ كثير منهم إلى المحاكمات، وحُكم على 4 من قادة الإضراب بالإعدام.. ولكنّ النّضال ظلّ مستمرا حتى تمّ الاعتراف بحقوق العمّال في أمريكا وفي أوروبا، واعتبر الأوّل من ماي يوما عالميا للعمّال.. ولنا أن نلحظ هنا كيف أنّ العمّال في دول الغرب -التي تتغنّى الآن بحقوق الإنسان وحقوق العمّال- لم ينالوا حقوقهم حتى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الميلادي!
نعم. حقيقةً، في دول العالم الثالث، التي تنتمي إليها الدول العربية الإسلاميّة، لا يزال كثير من العمّال بعيدين عن حقوقهم، بل لا تزال حقوقهم حلما يسعون جاهدين ليحوّلوه إلى واقع، ولا يزال بعضهم يعاني عبوديّة مقنّعة، ويفني كثير منهم أعمارهم في تحصيل لقمة العيش، ويقضي الواحد منهم بياض نهاره كاملا، ويضطرّ إلى العمل في أكثر من عمل، لأجل أن يوفّر ضروريات العيش لأسرته. من العمّال من يخرج في وقت الفجر أو قبله، قبل أن يستيقظ أبناؤه، ولا يعود إلا في آخر الليل ليجدهم نياما، فلا يرونه ولا يجتمعون به على طعام ولا على حديث، كلّ هذا لأجل أن يوفّر لفراخه ضروريات الحياة! هذا موجود في واقع الدول العربية الإسلاميّة، لكن لا علاقة له بالإسلام.
ديننا يأمر بالتخفيف عن العامل والأجير ويحرّم أن يكلّف فوق طاقته، يقول النبيّ –صلـى الله عليه وسلم-: “إِخوانكم خَوَلُكُم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم” (رواه البخاري)، هذا الكلام قاله النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- 1250 عاما قبل أن تُفتح عيون الغرب على حقوق العمّال.

ديننا يجعل التخفيف عن العامل عملاً صالحا يؤجر صاحبه، يقول النبيّ –صلـى الله عليه وسلم-: “ما خفَّفْتَ عن خادمك مِن عملِه،كان لك أجراً في موازينِك” (رواه ابن حبان)، وكيف لا يحضّ النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- على التخفيف عن العامل الإنسان، وهو –عليه السّلام- الذي كان يحضّ على التخفيف عن الحيوان: فقد دخل –صلوات ربّي وسلامه عليه- يومًا بستانا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى الجملُ النبي –صـلى الله عليه وسلم- حن وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله –عليه الصّلاة والسّلام- فمسح عليه، فسكن، فقال: لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: “أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّكك الله إياها؛ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتُدْئِبه” (أبو داود).. وإذا كان إرهاق الحيوان المعدّ للخدمة كالجمل والحمار محرّما، فكيف بالإنسان؟ كيف بمن يحوّل الإنسان إلى حمار يدئبه ولا يكاد يترك له وقتا للرّاحة، ثمّ لا يعطيه أجره كاملا؟ هذا حرام على الأفراد، حرام على أصحاب الشركات، وحرام على الدّول.
ديننا يأمر بإعطاء العامل حقّه قبل أن يجفّ عرقه: يقول النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه” (رواه ابن ماجه)، ويحذّر أشدّ التحذير من المماطلة في إعطاء العامل حقّه، ويجعل ذلك من الكبائر، يقول الحبيب –عليه الصّلاة والسّلام-: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره”. (رواه البخاريّ)

ديننا يحرم أن يُؤخذ من الإنسان وقته كلّه لأجل لٌقمة عيشه. فليس يجوز وليس يصحّ أن نأخذ من عبد ساعات نهاره كلّها ولا نترك له وقتا لصلاته وبيته وأهله وأولاده.. ونحن نرى مع كلّ أسف كيف أنّ دوام العمل الذي أخذناه من الدول الغربية يستغرق جلّ ساعات النّهار، ولا يراعي أوقات العبادة، ولا يترك للعبد وقتا كافيا ينشغل فيه بتربية أبنائه والاهتمام بشؤون بيته. ينتهي وقت العمل عند العصر ويعود العامل مرهقا، وما أن يأخذ له قسطا من الراحة حتى يحين وقت المغرب، فالعشاء، فالنّوم… وهكذا.
نظام الدّوام عندنا نحن المسلمين يفترض أن يبدأ بعد الفجر مباشرة، وينتهي في وقت الظّهيرة، ليكون المساء وقتا خاصا ينشغل فيه كلّ مسلم ببيته وأسرته، ويصلّي الصلوات في وقتها في بيت الله. وهذا النّظام الإسلاميّ كفيل بأن يجبرنا على النّوم المبكّر بعد العشاء مباشرة، ويعيننا على إقامة صلاة الفجر في وقتها، وعلى تحصيل بركة الفجر وبركة البكور وعلى استنشاق هواء الفجر النقيّ المنعش. يقول الباحث الإسلامي، الدكتور عبدالوهاب المسيري –رحمه الله-: “ساعات العمل استوردناها من الغرب بدون تفكير، وهي ساعات تصلح تمامًا لبلادهم، أما بالنسبة لبلادنا؛ فيوم العمل المناسب يمكن أن يبدأ بعد صلاة الفجر، وينتهي عند وقت الظهيرة، على أن يستأنف الناس حياتهم الاجتماعية بعد العصر، ويناموا بعد صلاة العشاء”.

وإذا كان ديننا قد اهتمّ بالعامل الأجير في وقت شبابه وعطائه، فقد اهتمّ به كذلك عند ضعفه وشيخوخته، ومنحه حقّ التقاعد، وأوجب على الأمّة أن تكفله في شيخوخته وتوفّر له راتبا يحفظ كرامته.
روى البلاذري بسنده في (أنساب الأشراف) أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنـه- رأى شيخاً من أهل الذمة (يهودي) يقوم على أبواب الناس يسألهم، فقال: “ما أنصفناك، أخذنا منك الخراج شاباً، فلما كبرت خذلناك”. فأجرى عليه قوته من بيت مال المسلمين”، وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب (الأموال) أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطاة والي البصرة: “أما بعد، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتيا وخسرانا مبينا، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخل بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك صلاحا لمعاش المسلمين وقوة على عدوهم، وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!