-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حياة البرزخ.. بين الإيمان والعقل

سلطان بركاني
  • 2915
  • 4
حياة البرزخ.. بين الإيمان والعقل

خلال الأيام القليلة الماضية، استضافت إحدى وسائل الإعلام عندنا داعية سوريا مهتما بالإعجاز العلميّ في القرآن الكريم، له بحوث يحمد على عدد منها زادت يقين الشّباب في دينهم وفي كتاب ربّهم، وجعلتهم يفهمون بعض حقائق الدّين استنادا إلى مكتشفات العلم الحديث، ويؤاخذ في بحوث أخرى جانَبه فيها الصّواب، استند فيها إلى بعض ظنيات العلم أو حمل نصوص القرآن التي استدلّ بها على غير محاملها.. لكنّ الجهة المذكورة وفي خضمّ بحثها عن الإثارة التي أصبحت بالنّسبة إلى كثير من وسائل الإعلام أقصر طريق نحو الشهرة، ركزت على إبراز بعض الآراء الغريبة والشاذّة التي يتبنّاها هذا الدّاعية ويدافع عنها، ممّا يصادم آيات قرآنية واضحة ونصوصا نبوية متواترة؛ على رأس هذه الآراء رأيه في عذاب ونعيم القبر، الذي أنكره الدّاعية استنادا إلى آيات قرآنية حمّلها ما لا تحتمل، وإلى شبهات يخالها من يسمعها شيئا لكنّها في ميزان العلم والعقل كسراب بقيعة.
قضية عذاب القبر ونعيمه من القضايا التي أصبح بعض شبابنا في السنوات الأخيرة يرتابون فيها، مع الانفتاح المشهود في وسائل التواصل الاجتماعيّ، ومع سهولة نشر ومشاركة وتداول الأقوال والآراء، بما فيها تلك التي تخالف المنقول والمعقول، وتلقى القبول لا لشيء إلاّ لأنّها تجمّل وتزيّن ببعض البهارات والمساحيق ويقدّم لها بعبارات رنّانة على غرار “إعمال العقل، إعادة قراءة وفهم النّصوص…”، وهكذا، لتصبح متداولة بين الشّباب الذين تخفى عليهم كثير من حقائق الدّين ولا يميّزون بين منطق العقل ومنطق الهوى وبين حقائق العلم الحديث وظنياته.
قضية حياة البرزخ أصبحت من القضايا التي تطرح للنّقاش بكثرة في وسائط التواصل، لأنّها من المسائل التي يركّز عليها الملاحدة والعلمانيون لتشكيك الشّباب في دينهم، ومن القضايا التي تستهوي بعض الدّعاة الجدد الذين يسعون في تقديم نسخة جديدة من الإسلام! يرجون أن تنال رضا الغرب والعلمانيين، حيث يثير هؤلاء وأولئك الشّبهات حول حياة البرزخ ونعيم القبر وعذابه، وينادون بالكفّ عن الحديث في هذا الموضوع على المنابر وفي وسائل الإعلام، حتّى لا يُساء إلى الإسلام!
لا أحد ينكر أنّ بعض الدّعاة، مع انطلاق الصحوة الإسلاميّة في العقود الماضية، قد توسّعوا كثيرا في الحديث والكتابة عن “عذاب القبر”، ولقيت تسجيلاتهم وكتاباتهم رواجا كبيرا في الأوساط العامّة، وفي كلّ الدول الإسلاميّة، وكان لها أثر كبير في توبة كثير من الشّباب والفتيات، وهو ما لم يرق للعلمانيين الذين شنوا ولا يزالون يشنّون حملات مركّزة على مثل هذه الكتابات والتّسجيلات التي يقولون إنّها تخوّف الشّباب وتنشر بينهم اليأس وتحول بينهم وبين أن يعيشوا شبابهم ويستمتعوا بحياتهم! بل إنّ بعض هؤلاء المتعلمنين قد تنادوا لمنع الكتب التي تتحدّث عن حياة البرزخ وأحوال القيامة!
لقد توسّع بعض الدّعاة حقيقة في الحديث عن “عذاب القبر”، ووصل بعضهم إلى حدّ المبالغة، وإلى حدّ يُخيّل معه إلى من يسمع كلامهم أو يقرأ كتاباتهم أنّ القبر هو محلّ للعذاب فقط، ولا نعيم فيه، وكان الأولى أن يكون الحديث عن حياة البرزخ متوازنا، يتضمن التفريق بين حال الكافرين والمتمرّدين، وحال المؤمنين والمتقين، بين حال من يكون قبره روضة من رياض الجنّة، وبين من يكون قبره حفرة من حفر النار.. لكنّه ومهما كان تقصير بعض الدّعاة في هذا الجانب، فإنّه لا يبرّر بحال من الأحوال الحملة التي يشنّها العلمانيون على كتب الوعظ التي تتحدّث عن حياة البرزخ وعن يوم القيامة، لأنّ أعظم كتاب في الوجود، كتاب الله جلّ وعلا، لا تكاد تخلو سورة من سوره من حديث عن الدّار الآخرة.. ولو تمّ الإذعان لمطالب العلمانيين بمنع الكتب والمنشورات التي يرون أنّها تبثّ اليأس والإحباط بين الشّباب، لربّما تمادى بعضهم إلى المطالبة بوقف طباعة المصحف الشّريف على اعتبار أنّه يحتوي آيات تخوّف من الموت والدّار الآخرة!
كما أنّ توسّع بعض الدّعاة في الحديث عن عذاب القبر، لا يبرّر أبدا صنيع بعض “الدّعاة الجدد” الذين يسعون في إرضاء العلمانيين واللادينيين بإنكار عذاب القبر جملة وتفصيلا، ولو أدّى بهم الأمر إلى تأويل النّصوص القرآنية التي تتحدّث عن حياة البرزخ تأويلات متعسّفة، ومعارضة آيات القرآن بعضها ببعض، وإلى ردّ الأحاديث الصّحيحة الصّريحة التي تدلّ دلالة واضحة على أنّ في القبر نعيما وعذابا. في مقابل استدلالهم بنصوص يحملونها على غير محاملها ويتكلّفون في تطويعها لخدمة دعواهم في إنكار “حياة البرزخ”.
نعيم القبر وعذابه من الحقائق التي اتّفقت عليها طوائف المسلمين، ولم يخالف فيها سوى بعض الخوارج والمعتزلة، والأدلّة عليهما متوافرة وصريحة، منها قول الله تبارك وتعالى عن فرعون وزبانيته: ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب))، ومنها أيضا حديث ابن عبّاس –رضي الله عنه– في الصّحيحين، قال: مرّ النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم– بقبرين فقال: “إنّهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير، أمّا أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأمّا الآخر فكان يمشي بالنّميمة”، ثمّ أخذ جريدة رطبة فشقّها نصفين ففرز في كل قبر واحدة. قالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: “لعلّه يخفّف عنهما ما لم ييبسا”.
هذه النّصوص، وغيرها كثير، تدلّ دلالة واضحة على أنّ القبر محلّ لحياة تختلف طبيعتها بحسب حال الإنسان في هذه الدّنيا، وهذه الحياة هي من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه، ولا يستطيع إنكاره إلا جحودا ومكابرة.. وهي –أي حياة البرزخ-حياة نعيم لعباد الله الصالحين، وحياة عذاب للكافرين والغافلين؛ ومن عباد الله المسلمين المؤمنين من يعذّبون في قبورهم ليؤدّوا ما عليهم ويدخلوا الجنّة بعد ذلك إذا قامت القيامة.. فلا معنى بعد هذا للقول بأنّ إبليس هو المستفيد من عذاب القبر لأنّه لا يعذّب حتى تقوم القيامة! لأنّ هذا التّساؤل مبنيّ على اعتقاد أنّ عذاب القبر شرّ كلّه! ويقود إلى القول بأنّ الابتلاءات التي تنزل بعباد الله المؤمنين في الدّنيا هي أيضا في صالح إبليس! لأنّها شرّ محض!
على إخواننا الشّباب أن يغضّوا عقولهم وأبصارهم وآذانهم عن هذه الدعوات التي تنشد الإثارة على حساب دينهم وعقيدتهم.. العقل ليس من صلاحياته ولا يمكنه أبدا أن ينكر شيئا من أمور الغيب؛ فحياة البرزخ مثلا تتعلّق بعالم الأرواح، والرّوح مخلوق لا يحيط به العقل ولم يقف العلم على حقيقته، قال تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)).. وإذا كان العقل والعلم لا يحيطان بحياة الإنسان وحال روحه أثناء النّوم، فكيف يحيطان بحياة القبر والبرزخ؟ بل إنّ الله قد جعل في نوم الإنسان وما يجده أثناءه آية تقرّب له حياة البرزخ؛ فلو افترضنا –مثلا-أنّ ثلاثة من الشّباب أووا إلى فرشهم ليناموا في غرفة واحدة؛ أحدهم غطّ في نوم عميق ينعمّ خلاله بأحلام جميلة هادئة هانئة، والثاني إلى جانبه يعذّب بكوابيس مفزعة..هذا ينعّم وذاك إلى جانبه يعذّب، ولا أحد منهما يشعر بالآخر.. أمّا الشابّ الثّالث فأصابه الأرق ولم يستطع النّوم، ينظر إلى صاحبيه اللّذين يغطّان في نوم عميق، ويغبطهما على ما هما فيه، لكنّه لا يعلم أنّ أحدهما ينعّم في أحلامه والآخر يعذّب.. وهكذا يمرّ الحيّ على قبور الأموات فيراها متقاربة يعلوها الهدوء والسّكون، لكنّ أصحابها في داخلها يختلفون اختلافا عظيما، ورُبّ قبرين متجاورين، أحدهما يُؤوي عبدا صالحا ينعّم والآخر يؤوي عبدا غافلا يعذّب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • عمر المناصير..الأُردن

    نعتذر عن تكملة الطرح لصغر حجم التعليق

  • ساسي جاري

    ياا سلطاني السلفي الوهابي لقد سقط المشروع الوهابي السلفي الماسوني -الامريكي الصليبي -الصهيوني بالشرق الاوسط بسبب تدخل روسيا
    الصهاينة وحكام الخليج الخونة العملاء وعلماء السلفية الوهابية الفاسدون المارقون -السلفية والصهيونية والصليبية العالمية علي قلب رجل واحد -باركوا تدمير البلدان العربية سوريا العراق اليمن ليبيا وتونس ومن قبل الجزائر -العشرية السوداء - وقتل المسلمين وتشريدهم خدمة لمصالح امريكا واسرلاائيل وعروش ملوك الخليج الخونة الجبناء

  • ساسي جاري

    دعك من عذاب القبر ومن البرزخ يا بركاني فواقعنا مر مذاقه كطعم العلقم عليك اولا ان توقف قتل المسلمين بغزة وتوقف تهويد القدس العربي وتدنيس الاقصي المبارك ومحاولة تحويله لهيكل سليمان
    وعليك ايضا كداعية كبير ومسلم ومؤمن او تطلب من اسيادك الوهابيين السلفيين الصهاينة العرب ال سعود ال اليهود حكام السعودية ان يتوقفوا عن قتل المسلمين باليمن -قتلوا الي حجد الان 256987 مسلم عربي يمني -
    اليس هذا افضل من الكلام عن الغيبيات يا ابا عرعور

  • Nabil

    "والأدلّة عليهما متوافرة وصريحة"...ما قيل في القرآن :
    1-- خاصّ بآل فرعون
    2-- لا يعذّبون و لكنّهم يعرضون على النّار و الآية صريحة في زمن العذاب "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب"
    فأين هذه الوفرة التي تزعمها.

    "ولم يخالف فيها سوى بعض الخوارج والمعتزلة" ... إذا لم أخطئ، إنّ الشيخ الشّعراوي الذي ينفي عذاب القبر ليس خارجيّا و لا معتزليّا