حينما تنفض جناحيها العقابُ

الترامبية تحفّز الشعبوية وتُضعف العولمة، ولو كانت أمريكية؛ لذلك عادت الشعوب لتتفقد هويتها. لكن ما هي هوية العرب والمسلمين وهم في قلب العالم كله؟
الخلاف بين الحلف الأطلسي كالفخار يحطم بعضه بعضا، وليست أطرافه فرقا رياضية يحتدم التنافس بينها أمام جمهور متحمس. المهم أين نحن من هذا السعار المحموم على امتلاك أسلحة تُصنَّع لقتلنا، وكيف لنا أن نواجه مصيرنا إذا توجهت حاملات هذه الترسانة إلينا؟
أوكرانيا نزعت سلاحها المنيع في اتفاقية “بودابست” عام 1994، بضمانة أمريكية وبريطانية وسلّمته لروسيا، التي عادت لتحتل أرض الأوكران من جديد، ثم تحولت الولايات المتحدة إلى عراب للاحتلال، وطامع في ما تبقى من هذا البلد. إنها الذئاب والضباع الجائعة، فليحذر المسلم الفلسطيني أن يُؤتى من هذا الباب.
تركيا وتحديات الداخل
تركية أمرها قد توجه، أي أن مجالها الحيوي إبان الخلافة العثمانية قد عاد إليها أو عادت هي إليه، ولديها الآن من الأوراق المتنوعة ما يجعلها وحلفاءها القوة الضاربة في الشرق. حزب الشعب أصبح عائقا أمام المستقبل التركي ومستقبل الأمة، وعلى الأتراك العمل على تنقية صفوفهم من الرجعية العلمانية، التي شرَدت بتركية قرنا من الزمان.
ليس استقرارًا حكمٌ يتصارع زعماؤه على السلطة بهذه الطريقة، الرجلان، أردوغان وإمام أوغلو، على طرفي نقيض، وقد يأتي أحدهما على إنجازات الآخر بين ليلة وضحاها. مصلحة الأمة في حزب العدالة فما فوقه، ولن ينال الأتراك مكاسب إستراتيجية إذا لم يراجعوا طبيعة الحكم لديهم في ضوء تاريخهم السياسي العريق.
أوكرانيا مهددة في وجودها لأنها قبلت بالحماية الغربية لقاء تسليم سلاحها النووي، فنزعُ السلاح انتحار، وليس نزع السلاح إلا آخر الخطوط دفاعا عن الشرف، بل إن تهدئة الفعل المقاوِم نفسه كسرٌ لخط دفاعي متقدم ينبغي أن لا يكسره أي مدد غربي للكيان، إن الاشتباك الدائم بأراضي الضفة وداخل الخط الأخضر إستراتيجية لم تفعِّلها بعد الفصائل المقاومة كما يلزم.
تركيا لا تتجرَّأ على نصرة غزة علنا وبقوة كما كانت تفعل قبل “طوفان الأقصى”، لأن الغرب يعاقبها، وأردوغان ليس في وضع انتخابي جيد كيما يجازف علنا بالدعم. لذلك لا نعوِّل على الأتراك كثيرا في مناصرة قضايا الأمة، يعني نفضنا أيدينا منهم .لكنني أقرأ في السماح للمعارضة السورية بالتحرُّك من الشمال خطوة ذكية في اتجاه غزة، لكنها لا تزال في بداياتها.
إيران وتحديات الخارج
لا تخفي دول الناتو دعمها لأوكرانيا والكيان، وتخفي إيران الجمهورية الإسلامية دعمها أطرافَ المحور المقاوم ومساندتها روسيا في حربها الحالية كذلك! ولا يمكن أن يخفى ذلك على الولايات المتحدة؛ إيران بدأت تنحسر وتخسر جراء هذه السياسة التي تستغبي العالم ولا تتحمل تبعاتها. إن من مصلحة إيران تجديد فكرة الولي الفقيه، والاندماج بإيجابية مع الأمة، لتتخفَّف من تركة اجتهادية تُثقل كاهلها وتعيق نهضتها.
إذا أرادت إيران المنعة في هذا الكيد فعليها بأمرين، التصرف مثل كوريا الشمالية في ما يخص الترسانة العسكرية، لتجد “ترامب” يخطب ودَّها على الأبواب؛ والثاني توثيق الصلة مع الأفغان والأتراك، لأنهما عمقها الآسيوي الآمن نحو الصين والأوروبي نحو الغرب، لعلها تستطيع أن تتفلت من العقوبات.
مواجهة العدوان تتطلب رص الصف الإسلامي كاملا غير منقوص، فالوحدة مقصد من مقاصد الشرع الحنيف وشرط مهم في استنزال النصر “وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين”.
قلب العقاب فلسطين
أوكرانيا مهددة في وجودها لأنها قبلت بالحماية الغربية لقاء تسليم سلاحها النووي، فنزعُ السلاح انتحار، وليس نزع السلاح إلا آخر الخطوط دفاعا عن الشرف، بل إن تهدئة الفعل المقاوِم نفسه كسرٌ لخط دفاعي متقدم ينبغي أن لا يكسره أي مدد غربي للكيان، إن الاشتباك الدائم بأراضي الضفة وداخل الخط الأخضر إستراتيجية لم تفعِّلها بعد الفصائل المقاومة كما يلزم.
إذا كان هذا أقل ما استطاع “طوفان الأقصى” أن ينجزه لأمته، أي أن يُسقط أمن العدو كلما عربد، برشقات تتقاطع فوق سمائه، فإن قوافل الشهداء القادمة ستبني على الشيء مقتضاه.
هنيئا لهؤلاء الفرسان الذين ترجَّلوا الشهادة في معركة الطوفان ولأهاليهم حياة الخلود في الفردوس الأعلى، أسأل الله أن يفرغ على ذويهم صبرا، فالشهيد صلاح البردويل أنهى عمره الافتراضي (66 سنة)، في خدمة دينه وأمته ووطنه، وارتقى شهيدا وهو قائم يصلي؛ إنها نعم الهدية يهديها الصهاينة لهذا البطل! ولكن أما كان لنساء غزة في زوجة صلاح البردويل التي ارتقت شهيدة معه قدوة؟ لقد أذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، ولا جرَم أن الله على نصرهم لقدير. قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَبْشِرُوا ببَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ، وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”.
ولمن يراهن على هزيمة الحق من الصهاينة وأذنابهم الطائعين أقول:
إن تهدموا بالغدر داري فإنها تراث كريم لا يبالي العواقبا
اتفاق إطلاق النار هشّ ويبدو أن الصهاينة فهموا بأنهم انتصروا وأن أيديهم باتت هي العليا. اللطافة الزائدة مع الاحتلال ومن يدعمه وهم يبطشون بشعبنا ضعفٌ غير مبرَّر، ومبالغة حماس في احترام بنود الاتِّفاق والعدو يخرقه ويمزِّقه يوميا، بل إنه ليصطاد قادتها ويقتل شعبها وهي تناشد مكتوفة الأيدي، دليلُ تراجع عن وعدها الأمة بالمقاومة وعدم الانكسار، فعش عزيزا أو مت شهيدا بين طعن القنا وخفق البنود.
إن التنديد كلمة لا معنى لها في مثل هذه الظروف، والمسيرات ما أسهلها من أعمال، مناداة الأمة بالتدخل والقيادة الأردنية بإلغاء اتفاقية العار لا يجدي نفعا. إن الأحرار من القبائل الأردنية يعرفون جيدا الطريق إلى القدس.
ترديد القول إن “نتنياهو” يواصل الحرب لإنقاذ نفسه تسليمٌ بسردية المعارضة في الكيان والإعلام، الحربُ عقائدية توراتية، و”ترامب” كان أكثر وضوحا من الصهاينة في هذا. ثم إن تضحيات الفلسطينيين خلال عام ونصفه أربت عن خمسين ألف شهيد، هي مجموع ما قدّمه الجزائريون خلال يومين في حرب تحرير دامت سبع سنوات، كان معدل القرابين فيه يتجاوز ستمائة شهيد يوميًّا. أي أن طريق الحرية لمن خاضه لا يُسأل فيه عن حجم التضحيات.
البنية العميقة للعقل الأمريكي ليست مسالمة كما يلتبس على بعضنا، لقد قامت الولايات المتحدة كلها على الإبادة، بل إنهم لم يرعووا في استخدام أفتك سلاح على الإطلاق ضد مناوئيهم في الحرب العالمية الثانية، ولا شيء سيردعهم عن تكرار الحادثة. جائزة “نوبل” شراك وهم لا قيمة له في ميزان الحق تبارك وتعالى، ونحن لا نزال نصدق بسذاجة الألسنة الكاذبة، ونزن الأمور بميزانها.
يبقى الحديث الشريف عن أهلنا المرابطين في فلسطين وما حولها خيرُ دليل شرعي لهم على الأفضلية، وأي دليل على ذلك خير من شهادة إلهية، تواترت الروايات على نقلها بطرق مختلفة فيها زيادات، منها ما رواه الإمام أحمد في “مسنده” عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”… فأمام الأمة اليوم مرآة صافية، يرون فيها أعمالهم، ويقوِّمون بها مواقفهم، ويحدِّدون عليها سياساتهم. وقد كشف النزال في “طوفان الأقصى” ذلك الأمر كله وبيّنه، “وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم، ورسوله، والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبِّئكم بما كنتم تعملون”.