حين تنام الأوطان على وهم السلام: ماذا لو اندلعت الحرب؟

ماذا لو استيقظت إحدى الدول المستقرة فيما تبقى من دول المنطقة العربية على دويّ القصف بدل نشيدها الوطني؟ ماذا لو اخترقت الطائرات المسيَّرة أجواءها؟ ماذا لو عُزلت رقمياً، وشُنّت عليها حرب سيبرانية شاملة؟
قد يبدو السؤال سورياليًّا للبعض… وربما مستفزًّا. لكن في عالمٍ تتكسر فيه الخطوط الحُمر، وتتحول الحروب الهجينة إلى سلاح يومي، فإن أسوأ ما يمكن أن تفعله الدول هو الركون إلى الوهم: وهم السلام الأبدي، ووهم الحصانة الجغرافية، ووهم التاريخ كضامن للسيادة.
لطالما ارتبط مفهوم “الحرب” في المخيال العربي المعاصر بذاكرة الاستعمار، أو بنشرات الأخبار القادمة من الشرق الأوسط، لا بالحاضر الإستراتيجي للدول المستقرة سياسيًّا. لكن… ماذا لو لم يعد هذا الفصل محفوظًا في كتب التاريخ وحدها؟ ماذا لو تجاوزنا الطمأنينة التي تُغلّف جدراننا الوطنية إلى الاحتمالات الحقيقية التي لا تنتظر استئذان العقل السياسي؟
الهدف من هذا المقال ليس ترهيب القارئ، بل تنبيهه إلى حقيقة صادمة :الطمأنينة الزائدة هي الثغرة الأولى في منظومة الردع الوطني. ناهيك عن الإسهام في يقظة عقل الدولة، حين يكون أمن الشعوب رهين استباق التهديد لا انتظاره.
🔹 جغرافيا المنطقة محفوفة بالألغام
تعيش دول المنطقة على تقاطع جغرافي معقد: من الشمال البحر الأبيض المتوسط الذي لم يعد بحيرة سلام، من الشرق جبهات ملتهبة تتقاطع فيها الأجندات الدولية، ومن الجنوب شريط هش تتسلل منه الجماعات المسلحة وتجارة السلاح، ومن الغرب حدود ملغمة وتوازنات متوترة.
في خضم هذا التشابك، تتحول الدولة العربية إلى قطعة شطرنج حيوية في لعبة جيوسياسية متقلبة، يحاول كل طرف دولي أو إقليمي إعادة ترسيم خريطتها بناءً على مصالحه.
كلما تحوّل العالم نحو السيولة الجيوسياسية، أصبح من السهل أن تُستهدف الدول المستقرة، لا لأنها ضعيفة، بل لأن استقرارها يشكّل تحديًّا لمعادلات إقليمية.
اليوم، لا يوجد مكان محايد تمامًا في العالم: كل دولة ذات موقع استراتيجي أو مصدر طاقة حيوي، أو سياسة مستقلة، هي دولة معرّضة، ليس بالضرورة لهجوم مباشر، ولكن لاستنزاف ناعم يتطور إلى تصعيد صلب.
🔹 حين يصبح “الهاشتاغ” صاروخًا موجهًا
ليست كل الدول متوسطة الحجم قادرة على الدفاع عن نفسها بالمسافة الجغرافية وحدها. في زمن الطائرات المسيّرة، والهاكرز، وأشباه الدول، لا شيء بعيد بما يكفي عن “الضربة الأولى”.
أي دولة عربية اليوم، قد تجد نفسها على خط تماس مع: صراعات حدودية (مثل أزمات ليبيا، النيجر، أو البحر الأحمر)، تنافس طاقوي (مثل خطوط أنابيب الغاز)، ناهيك عن توترات أمنية غير تقليدية (مثل التهديدات السيبرانية والجماعات العابرة للحدود).
لم تعد الحروب الحديثة تُعلن ببلاغ عسكري، بل تبدأ ببث إشاعات مدروسة، إطلاق هاشتاغات تخريبية، ضرب ثقة الناس في مؤسساتهم، تليها شلّ البنية الرقمية للدولة.
إننا نعيش اليوم مرحلة جديدة من الصراعات تُعرف بـ الحرب الهجينة“؛ فبين سطور منشورٍ على منصة رقمية، قد تخبئ دولة أجنبية خطة استنزاف طويلة المدى لدولة أخرى.
في قلب المعركة الرمزية أصبح “الهاشتاغ” أخطر من الدبابة..
في الحروب الجديدة: تبدأ الحملة بتغريدة، لتتصاعد إلى وسم مزيف، ثم تنتهي بتشكيك في الولاء والانتماء.
هل لدى الدول آلياتُ استجابة سريعة في الفضاء الرقمي؟ هل توجد وحدات رصد استراتيجي لخطاب الأعداء؟ هل يجري تفكيك رموز الخطابات المتطرفة التي تُروَّج تحت غطاء الحقوق أو الديمقراطية أو الدين؟
🔹 أهداف مبكّرة في أي تصعيد
الدول التي تعتمد على تصدير الغاز أو الطاقة أو تدير أنظمة نقل حساسة تصبح أهدافًا مغرية في أي صراع قادم. فهل يمكن لمنشآت الطاقة أن تصمد أمام طائرة مسيّرة؟ هل بُنيت شبكات النقل، المصارف، الكهرباء، والمياه على قاعدة “المرونة الأمنية”؟ أم أن الإنكشاف السيبراني أصبح خط الدفاع الأخير قبل الانهيار؟
🔹 حين يكون الردع بلا رصاص
إن القدرة على قراءة التحركات الرقمية المعادية، وكشف التهديدات قبل أن تتحول إلى عمليات، أصبحت اليوم أحد أسس السيادة الوطنية.
لا يُبنى الردع فقط بالسلاح، بل بـقدرات استخباراتية استباقية، منظومات سيبرانية وطنية، وإعلام وطني واعٍ قادر على تحصين الرأي العام.
الدول التي تكتفي بـ”رد الفعل” لن تبقى كثيرًا في عالم تحكمه المبادرات المفاجئة والهجمات غير المتوقعة.
🔹 حرب العقول قبل الطائرات
منصات إعلامية عابرة للحدود، حملات نفسية رقمية، اختراق للسرديات الوطنية… كلها أدوات حرب ناعمة تخترق الوعي قبل أن تُطلق القذائف.
لقد شهدنا تجارب في بلدان كثيرة كيف بدأ الانهيار من “التفكيك الرمزي للدولة“، من خلال: التشكيك في الجيش، ضرب رمزية المؤسسات، التحريض العرقي أو الطائفي، وتحويل صراعات داخلية إلى أدوات تدويل.
خريطة التهديد لم تعد تقليدية: الحرب لا تبدأ بالقصف.. بل من خلال ضربة ناعمة (اختراق البنوك، تعطيل المطارات، وضرب الثقة في شبكات الكهرباء أو الاتصالات). وضربة نفسية (الحملات الإعلامية المنهجية، بث الإشاعات، وتحريك نخب مأجورة لتأليب الداخل). لتنتقل إلى ضربة رمزية (إسقاط رمزية الجيش، ضرب الوحدة الوطنية، أو الترويج لخطاب الانفصال الثقافي).
🔷 أربعة فرضيات مركزية يجب أن تُدرس بجدية
- فرضية هجوم سيبراني شامل: شل مؤسسات الدولة (شل المؤسسات البنكية، تعطل منظومات الاتصال، تسريب معلومات أمنية)، تعطيل الخدمات، انهيار الثقة.
- فرضية هجوم بالوكالة: جماعات مسلحة تضرب مواقع حدودية أو تستهدف منشآت حيوية (ضرب خطوط الطاقة أو البنية التحتية للنقل عبر مسيّرات أو عناصر تخريبية).
- فرضية التآكل الداخلي: تصعيد شبكات مدفوعة الأجر لبثّ خطاب انفصالي، عرقي، ديني، إعلامي (دفع جماعات انفصالية أو حركات احتجاجية إلى التصعيد بتحفيز خارجي).
- التطويق الدبلوماسي: عزل الدولة إقليميّا أو دوليّا، وإحاطتها بتكتلات معادية.
🔹
مناعة المجتمع أول خط دفاع
الجاهزية لا تعني الجيوش فقط، بل وعي الشعوب. فهل يدرك المواطن في لحظة أزمة أن التماسك الوطني مقدَّم على الانقسام؟ هل يمكن للمدارس والجامعات أن تُدرِّس الأمن القومي؟ هل توجد آليات تعبئة مدنية في حالات الطوارئ؟
الردع الحقيقي يبدأ حين يُصبح كل مواطن درعًا للسيادة، وكل مؤسسة شريكة في الأمن، لا عبئًا عليه.
في كل حرب حديثة، تبدأ الهزيمة من الداخل لا من الحدود. التماسك الوطني هو خط الدفاع الأول. لكن التماسك لا يُخلق تلقائيًّا… بل يحتاج إلى: تعليم وطني يُدرّس مفهوم “الأمن”، إعلام يحمي الذاكرة الجماعية، قيادات تربط بين الخطاب السياسي وحسّ الانتماء، ومجتمع مدني واعٍ لا منقسم.
في كل حرب حديثة، تبدأ الهزيمة من الداخل لا من الحدود. التماسك الوطني هو خط الدفاع الأول. لكن التماسك لا يُخلق تلقائيًّا… بل يحتاج إلى: تعليم وطني يُدرّس مفهوم “الأمن”، إعلام يحمي الذاكرة الجماعية، قيادات تربط بين الخطاب السياسي وحسّ الانتماء، ومجتمع مدني واعٍ لا منقسم.
🔹 الاقتصاد الوطني.. الركيزة أو نقطة الانهيار؟
الحرب الحديثة تستنزف الخزائن قبل الجبهات. فهل تملك الاقتصادات الوطنية العربية مخزونًا غذائيًّا استراتيجيًّا، وقدرة على تحمل الحصار، وعملة مستقرة في مواجهة المضاربات؟ أم أن أزمة وقود أو دواء كافية لانهيار الثقة؟
كل ضربة ناجحة تستهدف: العملة، وسلاسل التوريد، وخزائن الدولة. هل تملك الدول العربية احتياطًا غذائيًّا؟ هل تمتلك قاعدة إنتاج وطنية مقاومة للضغط الخارجي؟
الاقتصاد هو ساحة المعركة الصامتة، التي قد تُحسم فيها الحرب قبل أن تبدأ.
🔹 الدبلوماسية: عندما لا يكفي الحياد
في عالم شديد الاستقطاب، الحياد الصامت قد يُفهم كضعف .الدول تحتاج إلى تحالفات ذكية، لا مواقف رمادية.
التحالفات العسكرية والاقتصادية ليست ترفًا، بل جزءٌ من الردع الإقليمي.حين تتحرّك آلة الحرب، فإن الدولة التي تملك حلفاء حقيقيين، سياسيًّا وعسكريًّا، هي وحدها من تردع الخصم من التفكير أصلًا بالهجوم. دول كثيرة راهنت على “الحياد” فوجدت نفسها معزولة .الدبلوماسية لا تكفي إن لم يُرافقها تموقع في التكتلات الدولية، وفهم للعلاقات الدولية كميزان قوى لا كمهرجان علاقات عامة.
🔹 هل نمتلك عقيدة أمنية متعددة الأبعاد؟
الردع ليس مجرد إعداد عسكري، بل هندسة عقل استراتيجي قادر على التفكير في كل السيناريوهات، فهل لدى الدول العربية “مركز تخطيط أزمات متعدد الأبعاد”؟ هل تتقاطع أجهزة الأمن والدفاع مع الإعلام والتكنولوجيا في هندسة الردع؟ هل تمتلك خطة ردع مرنة تبدأ من الدفاع الناعم وتنتهي بإمكانيات الرد الحاسم؟
🔷 القوة ليست فقط جيشًا.. إنها منظومة شاملة: فهل تواكب الجيوش العربية عقيدة القتال الحديثة؟ هل تتعامل مع المسيّرات؟ هل تمتلك منظومة قيادة وتحكّم في الزمن السيبراني؟
هل لدى الدول العربية مراكز دفاع رقمية؟ هل تستشرف الهجمات ولا ترد عليها فقط؟ هل تُبنى شبكات الكهرباء والغاز والمصارف على منطق التحصين الرقمي المسبق؟
التحالفات العسكرية والاقتصادية ليست ترفًا، بل جزءٌ من الردع الإقليمي.حين تتحرّك آلة الحرب، فإن الدولة التي تملك حلفاء حقيقيين، سياسيًّا وعسكريًّا، هي وحدها من تردع الخصم من التفكير أصلًا بالهجوم. دول كثيرة راهنت على “الحياد” فوجدت نفسها معزولة .الدبلوماسية لا تكفي إن لم يُرافقها تموقع في التكتلات الدولية، وفهم للعلاقات الدولية كميزان قوى لا كمهرجان علاقات عامة.
هل الإعلام الوطني العربي هو جزء من الردع؟ هل يقود سردية وطنية صلبة؟ هل يواجه حملات التضليل بوعي جماهيري لا بشعارات فقط؟
هل نملك خطط ردع متكاملة؟ هل البنية التحتية الرقمية مؤمَّنة؟ هل خطاب الدولة محصَّن ضد الاختراق الرمزي؟
🔷 دروس كبرى
شهدنا كيف تحولت أوكرانيا إلى جبهة عسكرية كاملة بعد سنوات من الخلافات الحدودية فقط، وكيف استُنزفت سوريا ليس عبر الاجتياح المباشر، بل عبر وكلاء وهجمات ناعمة، وكيف أصبح الأمن السيبراني أحد أدوات التفوق الإستراتيجي في المواجهة بين القوى الكبرى.
🔷 منظومة جاهزية لا تقف عند العسكر
المطلوب إستراتيجية أمن قومي تأخذ في الحسبان كل التهديدات، إصلاح البنى التحتية وفق منطق الردع لا مجرد الخدمة، تدريب مدني لخلق وعي بالأمن غير العسكري. هذا بالإضافة إلى تحصين نفسي ورمزي للمجتمع ضد الحملات التضليلية.
🔹 الدول تنتصر بالجاهزية
التاريخ يمنحنا الكبرياء، لكنه لا يوفر الأمن؛ فمن لا يستعد للحرب، سيُؤخذ منها غصبًا.
هذا المقال ليس تشاؤمًا ولا مزايدة، بل صرخة وعي استراتيجية في زمن لا تحترم فيه الأحداث خطوط الاستقرار.
الدولة التي تسأل اليوم “ماذا لو؟” قد لا تضطرّ للجواب لاحقًا تحت ضغط الصواريخ، فلنُعدّ أنفسنا.. لا خوفًا من الحرب، بل دفاعًا عن حقنا في السلم.
الردع لا يُبنى على الحنين إلى الماضي، بل على قراءة معادلات القوة.
الردع ليس مجرد إعداد عسكري، بل هندسة عقل استراتيجي قادر على التفكير في كل السيناريوهات، فهل لدى الدول العربية “مركز تخطيط أزمات متعدد الأبعاد”؟ هل تتقاطع أجهزة الأمن والدفاع مع الإعلام والتكنولوجيا في هندسة الردع؟ هل تمتلك خطة ردع مرنة تبدأ من الدفاع الناعم وتنتهي بإمكانيات الرد الحاسم؟
المقال لا يتنبأ بأيّ حرب، لكنه يسأل: ماذا لو حدث ما لا تتوقعه دول المنطقة؟ هل هي مستعدة؟
الاستعداد ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية. من لم يتعلم من حروب جيرانه، سيصبح يوماً مجرد درس في كتب الآخرين. الجاهزية لا تمنع الحرب فقط، بل تمنح الحق في السلام.
لا شيء أغلى من الوطن، ولا أقدس من سلام يُحمى بالعقل، ولا أرقى من أمن يُبنى بالمعرفة قبل البندقية.