-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خلا لك الجو يا حراك فبيضي واصفري

حبيب راشدين
  • 1895
  • 0
خلا لك الجو يا حراك فبيضي واصفري

أفضل ما حققه الحراك الشعبي حتى الآن هو الكشف عن هشاشة مؤسسات الحكم، وضعف قوى المعارضة، وقلة حيلة المتظاهرين حيال الانتقال من الاحتجاج إلى التأثير في مسار التغيير، الذي تقف البلد عند عتباته، مع غياب أيِّ خريطة جادة لصناعة بديل مقبول ومقنع لنظام تتساقط أركانه بوتيرة سريعة حد التهديد بحصول الفراغ الدستوري.

دعونا للحظة نتوقف عند ما وُصف به الحراك من عفوية، وسلمية، ونَفس طويل، وقهره لمَواطن الخوف، وما أظهره من وحدة الكلمة ومن تعايش مدهش بين حشود ترفع أكثر من راية، يقال إنه قد أبهر بها العالم، وقد ارتقى بسرعة من تصنيف “الاحتجاج” إلى مرتبة “الثورات” المؤهّلة لصناعة التغيير، وكلها صفاتٌ محمودة، لولا أنها تتستر على متناقضات كثيرة مسكوت عنها.

من جهة العفوية، لا نعلم لأي حراك شعبي في ما سبق من “الثورات المخملية” من ادَّعى له العفوية، لا في ما صنع من ثورات أوروبا الشرقية، بأدوات إدارة الشعوب التي تُدرَّس اليوم في كبرى الجامعات الغربية، ولا في ثورات الربيع العربي، التي تعرت في ساعاتها الأولى الأيادي التي كانت تحركها من الخارج، وأحيانا حتى من داخل الأنظمة نفسها.

وقد نحتاج إلى التذكير بأن السلمية التي تميز بها الحراك هي اليوم واحدة من أهم شروط نجاح أي حراك لا يريد أن يجازف بمواجهة غير آمنة مع قوى الأمن، ولأن السلمية تحتاج إلى التزام الطرفين بها، فوجب أن نثني على هذه السلمية للشارع المنضبط، كما نثني على قوات حفظ الأمن التي أدارت “12 مليونية” في جو مسالم هو أقرب إلى الاحتفالية منه إلى التظاهر، فشكرا للطرفين.

ومن جهة ما قيل عن إسقاط الحراك لمشاعر الخوف، فهو بلا شك مكسبٌ أسقط الخوف عن الطرفين بفضل سلمية الطرفين واحترامهما حتى الآن لقواعد اللعبة، فلا المواطن بات يخشى بطش قوات قمع الشغب، ولا السلطة باتت تخاف من تظاهرات دورية منضبطة لا تخل بالأمن العام ولا تعطل مصالح الناس، وهذا مكسبٌ للمستقبل سوف يحرر السلطة في المستقبل من رهاب الشارع، ويشجعها على التخفيف من ترسانتها القمعية، ومن القيود على حق التظاهر.

بقي علينا التدقيق فيما يقال عن وحدة الكلمة، في شارع لم يلتفت إلى ما كان يتسلل إليه، جمعة بعد جمعة، من رايات وشعارات تقف على طرفي نقيض، تريد أن تركبه وتستبق ركبان توزيع ريعه، عبر مسارات تريد أن تقفز على “السلطة التأسيسية للشعب” التي لا يمكن التعبيرُ عنها سوى عبر صناديق الاقتراع.

وهاهنا مكسبٌ آخر للحراك، الذي لم يُنتج فقط إسقاط العهدة الخامسة، وتعرية قوى غير دستورية مختطِفة للقرار بكثير من مؤسسات الدولة، بل نسف الواجهة المالية والسياسية للنظام قد بدأ تفكيكُها ومحاسبتها، بل أنهى عملية تجريف واسعة للمشهد السياسي في حلقته الأضعف بالمعارضة، التي لا تملك اليوم أدنى فرصة لتأطير الحراك وركوبه، سوى أن تجنح به نحو العنف والعصيان وتلكم قصة أخرى.

وليس في الساحة اليوم من قوى متحاورة عن بُعد سوى مؤسسة الجيش، مدعومة بمؤسسة القضاء المحرَّر حديثا من قبضة العصابة، وحراك شعبي محرَّر من أساطير نخبة سياسية معوقة، غير قادرة على التحرُّر من دورها الوظيفي، شارع يحتاج اليوم إلى تدبر ما قاله الشاعر طرفة بن العبد للقنابر وقد خلا لها الجو:

يا لك من قنبَرَةٍ بمَعْمَرِ … خَلاَ لَكِ الجوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أن تُنَقِّرِي .. .قَدْ رَحَلَ الصيادُ عنك فابْشِرِي
وَرُفِعَ الفَخُّ فمَاذَا تَحْذَرِي .. .لا بُدَّ من صيدك يوماُ فاصْبِرِي

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!