خلفيات التحوُّل القيادي في حماس
يبدو أن اعتلاء يحيى السنوار موقع القيادة في حركة حماس، يؤشر لدخول المقاومة الفلسطينية جميعا مرحلة جديدة تتجاوز فيها المطالب التقليدية المتعلقة بتحسين شروط المعيشة تحت ظل الاحتلال، وانتظار ثلاثين سنة أخرى في خندق التفاوض، ومن ثمّ الانتقال من حركة سياسية تستهدف الوصول إلى السلطة، والانتقال إلى حركة تحرير وطني ضمن مشروع وطني فلسطيني، كل ذلك احتاج إلى توفر البيئة الموضوعية الداخلية والخارجية لإحراز تقدُّم تاريخي في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية، وعلى رأسها الدولة الفلسطينية في حدود 4 جوان 1967.
وتحتاج المرحلة إلى رجل قوي ومستوعب للبيئة الداخلية والخارجية وأكثر تفهُّما للعقلية الصهيونية. وهذه الشروط تبدو أكثر التصاقا بالرئيس الجديد للمكتب السياسي لحركة حماس. لذلك صرّح وزير الخارجية الأمريكي بأن “السنوار كان ولا يزال صاحب القرار الأساسي بشأن اتفاق وقف إطلاق النار” فما هي العوامل التي دفعت بهذا التحوّل القيادي؟
أولا: يحيى السنوار من أكثر الشخصيات الفلسطينية التي هيّأ لها القدر دراسة طويلة الأمد للفكر السياسي والاستراتيجي للكيان الصهيوني، فقد استغل 23 سنة كاملة في سجون عدوّه لدراسة طبيعة الاحتلال، ونقاط قوته وضعفه.
ثانيا: استطاع السنوار تجاوز الانتماء الحزبي لصالح الانتماء الوطني، فقد تمكّن مع قيادات المقاومة من تشكيل قيادة عسكرية موحدة، وهي أول نواة لجيش التحرير الفلسطيني.
ثالثا: استطاع الرجل تجاوز الانتماء الطائفي والإيديولوجي وأعلن صراحة شكره لمحور المقاومة وعلى رأسه إيران في قراءة موضوعية للبيئة الإقليمية العربية التي انخرطت في عملية التسوية ومن ثم أعلنت قابلتها للتنازل عن الحقوق الفلسطينية، واتجهت أكثر نحو التطبيع المجّاني.
استطاع الرجل تجاوز الانتماء الطائفي والإيديولوجي وأعلن صراحة شكره لمحور المقاومة وعلى رأسه إيران في قراءة موضوعية للبيئة الإقليمية العربية التي انخرطت في عملية التسوية ومن ثم أعلنت قابلتها للتنازل عن الحقوق الفلسطينية، واتجهت أكثر نحو التطبيع المجّاني.
رابعا: أدرك الرجل أن التضحيات التي تقدّمها الشعوب هي الطريق إلى قلوب الجماهير وحسم معركة الرأي العام العالمي لصالح القضية الفلسطينية، ومن ثمّ فإن المزيد من الاعتداءات على الشعب الفلسطيني -بالرغم من فداحة خسائره- إلا أنه الطريق لتعرية الاحتلال وكشف طبيعته الإرهابية والنازية أمام شعوب العالم .
خامسا: لقد نضجت فكرة الدولة الفلسطينية على المستوى الدولي؛ فقد لاقت تأييد147 دولة، مع انتظار المزيد، وحتى بالنسبة لأعداء حماس في الغرب، فهم يؤكدون على حل الدولتين، وقد أخذت السلطة الوطنية الفلسطينية الوقت الكافي لهذا الحل وفشلت في ذلك، وحضور السنوار هو محاولة لاختزال زمن الانجاز من خلال العودة إلى مسار الحركة الوطنية الفلسطينية الذي تبنّته منظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات، وهو الكفاح المسلح.
وبالرغم من أن بعض الدول الغربية ترى أن الدولة الفلسطينية تأتي من خلال التفاوض، إلا أنّ أغلبية دول العالم اعترفت بالدولة كونها معرَّفة قانونا استنادا للقرار الأممي 242. لذلك فإن وجود قيادة صلبة متمسّكة بالثوابت الفلسطينية يجعل الطريق واضحا ومختصرا نحو تحقيق حل الدولتين.
سادسا: السنوار أيضا فاز بالإجماع لاستخلاف الشهيد إسماعيل هنية، ويكون بذلك قد نال اعتراف منتسبي الحركة بعد دوره المحوري في “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، علما أن انتخابات المكتب السياسي عام 2021 قد تساوت أصواتهم مع أصوات القيادي مما دفع إلى الحسم في دور ثاني فاز بمقعده في قيادة قطاع غزة، كل هذا يعني أن الجناح السياسي والعسكري للحركة قد سلّم قرار الحرب والسلم لرجل ميداني قادر على قلب المعادلات كما فعل في السابع من أكتوبر2023.
سابعا: السنوار شخصية من الداخل لم يبن تصوراته على وهم ما سمِّي “الربيع العربي”، ولم يتورط في الصراع ضد محور المقاومة وخاصة في سوريا، وهو الأمر الذي لا يتوفر لدى عديد القيادات الحمساوية بالرغم من الوساطة التي قادتها روسيا للتقريب بين النظام السوري وحماس، والتي قادت إلى عودة حماس للتوافق مع المحور الإيراني. ومن ثم فإن تكليف السنوار هو اعترافٌ بقدرة الرجل على استشراف الوضع السياسي والاستراتيجي في المنطقة، ورسالة ميدانية لمحور المقاومة بعد مراجعة حماس موقفها السياسي.
ثامنا: يبدو أيضا أن اختيار السنوار يعود إلى نوع من التوافق الإقليمي والدولي على المضيِّ قدُما نحو الدولة الفلسطينية في حدود 4 جوان 1967، وتحتاج هذه الخطوة إلى رجل قوي يحظى بإجماع القيادات الميدانية والسياسية والذي بإمكانه جعل أي التزام سياسي لحماس هو في الوقت ذاته التزام لجميع الفصائل المسلحة. وهو الأمر الذي استصعب على السلطة الوطنية الفلسطينية.
ولذلك، فإن اختيار الرجل مرتبط بترتيبات دولية تشمل العلاقة بين قوى دولية، وستظهر تلك الترتيبات والصفقات لاحقا وخاصة بعد الانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم.
تاسعا: السنوار أسيرٌ محرَّر، ومن أولوياته إطلاق سراح قياديين قدماء في سجون الاحتلال، باعتباره أكثر الشخصيات شعورا بوضع المساجين وآلام السجن الذي قضى بهاذ 23 سنة كاملة. وأكثر ما يهم الرجل اليوم هو الوصول إلى صفقة تبادل تستهدف القيادات الفلسطينية المؤثرة في الساحة الفلسطينية وعلى رأسهم القيادي الفتحاوى مروان البرغوثي، وهذا يؤشر لنوع من التوافق على شخصية قيادية فلسطينية أكثر ارتباطا بالمقاومة استعدادا للحصاد السياسي القادم، خاصة وأنه لم يعد من الممكن الاعتماد على الصف الأول من السلطة الفلسطينية بسبب عامل السن، وبسبب الفشل في الوصول لتحقيق الأهداف الوطنية وتنصُّل الاحتلال من مسار التفاوض. كما يرتبط ذلك أيضا باستعداد قوى إقليمية لتقديم بدائل قيادية من الصف الثاني أكثر تماهيا مع المشروعات الأمريكية السابقة.
عاشرا: يعبِّر السنوار عن مرحلة نجحت فيها المقاومة الفلسطينية في تعرية المطبِّعين والمنسِّقين والمتآمرين تسمح لانطلاق المقاومة من قواعد صلبة في رسم مصالحها المستقبلية.