خمسة أيام في الواحة الحمراء تِيمِيمُونْ

“بيريز دي كويلار” يزور قصر “أغلاد”
وبعد خروجنا من قصر كالي اتجهنا نحو قصر “أغلاد”، حيث استقبلنا السيد مصمودي محمد في محل تجاريّ، وأكرمنا بالماء والتمر، ثم أخبرني أن الوليّ الصالح سيدي الهواري المشهور في مدينة وهران، مدفونٌ هنا في قصر “أغلاد”. ولمّا لاحظ علامة التعجب بادية على وجهي، أظهر لي مقالا منشورا في صفحة جريدة، وردت كلمة “المجاهد” في أسفلها (قد تكون أسبوعية المجاهد)، بتاريخ 15 جويلية 1988م حرّره السيد ع. بن بريك، وهران، ذكر فيه بصريح العبارة أن الوليّ الصالح سيدي الهواري لم يُدفن في وهران، بل هو مدفون في تِيمِيمُون. وانتهزت هذه الفرصة لزيارة الضريح المنسوب لسيدي الهواري، فوجدته جميل المنظر، مصبوغا باللون الأبيض على عادة أضرحة أولياء الله الصالحين، معتنى به من حيث الصيانة، وهو مبنيّ وفق النمط المعماري المحليّ.
وفي طريق العودة، أخبرني مرافقي السيد بيتور أحمد، أن السيد بيريز دي كويلار، أمين عام هيئة الأمم المتحدة سابقا، قد سبق له أن زار هذا القصر في شبابه قبل استقلال الجزائر، عندما كان والده مُجنّدا في الجيش الفرنسي. ثم حدث أن التقى السيد بيريز دي كويلار، وهو على رأس هيئة الأمم المتحدة في عهد الاستقلال بالرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، فحدّثه عن رغبته في زيارة قصر “أغلاد”، على إثر ذلك قام رئيسنا بتعبيد الطريق بين مدينة تيميمون وقصر “أغلاد”، فزاره بريز دي كويلار. ومنذ ذلك الحين صار الرئيس الشاذلي بن جديد يقضي بعض أوقات عطلته هناك في أحضان طبيعة قصر “أغلاد” الخلابة.
تحدثت في الحلقة الماضية عن سياق زيارتي لولاية تيميمون (الاحتفال الرسمي بالسنة الفلاحية الأمازيغية)، وقدّمت لمحة بالأرقام عن ولاية تيميمون الجديدة، كما تحدثت عن عمرانها المتميز بالهندسة السودانية وباللون الأحمر فسُمِّيت “الواحة الحمراء”، كما أشرت إلى دورها التجاري بين شمال إفريقيا ومنطقة السودان الغربي في الماضي. وقدّمت أيضا فكرة عن اللسان الزناتي الأمازيغي الذي ينسجم إلى حد كبير مع اللسان الصنهاجي في الشمال. وسأواصل في هذه الحلقة الثانية والأخيرة سرد بقية تفاصيل رحلتي الشيقة.
كانت نهاية هذه الرحلة الممتعة بالعودة عبر كثبان رملية رائعة، لكنني لم أتمتع بمناظرها كثيرا، لأن الليل كان قد أرخى سدوله. والعجيب في الأمر أن السائق السيد جلول كان يسير فيها سيرا عاديا واثقا من نفسه، ولا أخفي عليكم قلقي، لأنني كنت خائفا من أن يصطدم بحجر أو شجر أو يقع في حفرة، لكن ذلك لم يحدث والحمد لله، فعدنا إلى فندق ڤوراره سالمين غانمين.
الموروث الغنائي المحليّ ضمن التراث الإنساني
تملك تِيمِيمُون موروثا غنائيا أصيلا، طبّقت شهرته الآفاق، فصار يستقطب السياح الأجانب المغرمين بحبّ الاطلاع على ثقافات الشعوب. وكان الإنسان منذ القديم يهوى الغناء والطرب ويستعين به في صراعه مع الحياة، يتجلى ذلك بوضوح في الأشغال الفلاحية الجماعية التي يؤديها الفلاحون على أنغام الموسيقى والغناء التي تسمى باللسان الزناتي “إزَلْوَانْ”. تأتي في مقدمتها نغمات “أهْلِيلْ” (مشتقة من التهليل) ذات مسحة روحية صوفية، تؤدَّى جماعيًّا في وضع الوقوف، في مناسبات كثيرة خاصة عند حلول ذكرى المولود النبوي الشريف، يشارك فيها الذكور والإناث على حدّ سواء، ولها غرضان أدبيان أساسيان، مدح الرسول (ص)، والغزل. وعندما يُقدَّم العرض في وضع الجلوس، يتغير اسمه ليصبح: “تَقرَّابْتْ”.
ويعود الفضل في دراسة هذا الموروث الثقافي، إلى الباحث مولود معمري (1917- 1989م) الذي بذل جهده حينما كان مديرا لمركز البحث الأنتروبولوجي وما قبل التاريخ والأجناس،CRAPE خلال سبعينيات القرن الماضي. واطّلع على أسرار تراث أهْلّيل الغنائي، بفضل مساعدة السيد مولاي الصديق سليمان أحد قامات هذا التراث. وكُللت جهوده العلمية بتسجيل هذا التراث في أسطوانة بعنوان “صحراء”، وبتأليف كتاب بعنوان: L′ahellil du Gourara صدر سنة 1984م. وبفضل هذه الجهود صنّفت اليونسكو غناء “أهليل” ضمن التراث العالمي في سنة 2008م. حقق الباحث مولود معمري هذا الانجاز العلمي الرائع، بمعية فريق بحثٕ تشكّل من الشباب، منهم رشيد بلّيل.
وهناك أيضا موسيقى “القرْقابُو” ذات جذور إفريقية، حافظ عليها أحفاد الزنوج الذين جيء بهم إلى المنطقة في إطار تجارة النخاسة. ورغم بساطة أدواتها فهي مشحونة برمزية إفريقيّة، تعبّر عن معاناة الزنوج في الأزمنة القديمة حينما كانت ظروفهم الاجتماعية صعبة جدا.
كما تتجلى الثقافة الصوفية العميقة في عروض فرقة “الحضرة” الغنائية التي تؤدَّى بأدوات موسيقية بسيطة، لكنها ذات دلالة روحية عميقة تحيلنا إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم وتمجّد مآثره. هذا ولا شك أن هذا الموروث الغنائي المتنوّع، له أسرار روحانية وفلسفية يستعصي فهمها على من لم يتشرّب ثقافة التصوف، وعلى غير المُلّم بالثقافة المحلية ذات الجذور الأمازيغية والإفريقية.
تجدر الإشارة أيضا إلى رقصة البارود الجماعية التي تعبّر عن قيمة الشجاعة والدفاع عن الحمى، تؤديها مجموعة من الأفراد وهم يشكّلون حلقة مغلقة، يتوسطها القائد الذي يقدّم توجيهات، وتنتهي الرقصة بإطلاق البارود في لحظة واحدة. لكنني-مع الأسف- لم أحظ بمشاهدة هذه الرقصة خلال هذه الزيارة لتِيمِيمُون.
ظاهرة الزوايا في تِيمِيمُونْ
تنتشر الزوايا بكثرة في تِيمِيمُون لأسباب تاريخية واجتماعية، أسّسها علماء يجمعون بين الفقه والتصوُّف السّني، قدِموا إلى المنطقة في القرن 16م. وكان لهذه الزوايا فضلٌ عظيم في نشر العلم والوئام والسِّلم والتآخي بين السكان الذين كانوا يعانون من صراعات وخلافات حادة. وقد ذكر أحد أبناء المنطقة وهو المؤرخ الدكتور محمد الفاطمي أسماء هذه الزوايا بالتفصيل في كتابه الموسوم: “البيوتات العلمية بڤورارة”. ومن أبرزها، زاوية سيد الحاج بلقاسم التي مازالت تستقطب الاحتفالات الدينية في تِيمِيمُون. هناك أيضا زاوية سيدي أحمد بن عبد الله البوبكري بقصر سموطة، بلدية أولاد سعيد، المعروفة بنشاطها العلميّ إذ دأبت منذ سنوات على تنظيم ملتقيات علمية بلغ عددها 7 ملتقيات كان آخرها ملتقى سنة 2023م، وغايته تعريف الخلف بعلماء ڤورارة وأوليائها ومناقبهم وجهودهم العلمية والاجتماعية التي حققت الاستقرار والطمأنينة لسكان المنطقة.
أخبرني مرافقي أن السيد بيريز دي كويلار، أمين عام هيئة الأمم المتحدة سابقا، قد سبق له أن زار هذا القصر في شبابه قبل استقلال الجزائر، عندما كان والده مُجنّدا في الجيش الفرنسي. ثم حدث أن التقى السيد دي كويلار، وهو على رأس هيئة الأمم المتحدة في عهد الاستقلال بالرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، فحدّثه عن رغبته في زيارة قصر “أغلاد”، على إثر ذلك قام رئيسنا بتعبيد الطريق بين مدينة تيميمون وقصر “أغلاد”، فزاره دي كويلار.
ولعل ما يميّز تاريخ هذه الزاوية، تولّي نسوة مهمة تسييرها أحيانا، كما هو شأن الشيخة لالا عائشة موساوي التي مازالت على رأس الزاوية منذ سنة 1975م، ولا شك أن استمرارها في المنصب مدة طويلة، دليل على نجاحها في التسيير. وكانت قبلها مشيخة الزاوية بيد لالا صفية بخّالد التي وافتها المنية سنة 1952م، وهي السنة التي وُلِدت فيها لالا عائشة موساوي.
وتوجد فروع عديدة للطرق الصوفية في تِيمِيمُون، منها الطريقة الجزولية (وهي الأقدم في منطقة ڤورارة حسب رأي الدكتور محمد الفاطمي)، والطريقة الشاذلية، والطريقة الطيبية، والطريقة الشيخية، والطريقة التيجانية، وقد زرت مقرّ فرع هذه الأخيرة وسط المدينة، بدعوة من السيد بن جعوان بلقاسم نجل حاج محمد العربي (مقدّم هذه الطريقة في تِيمِيمُون)، لها زاوية عامرة في قصر اُوڤرُوتْ. وتشتهر هذه الطرق الصوفية بصفة عامة بتعليم القرآن، وبتنظيم الحضرة (الأوراد والمدائح والتسبيح)، وبالاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف طيلة أسبوع كامل، وبتنظيم زيارات نحو أضرحة الأولياء.
جهود المؤرخ محمد الفاطمي
حظيتُ بمقابلة المؤرخ الشاب الدكتور محمد الفاطمي الذي يشغل حاليا وظيفة محافظ التراث في مديرية الثقافة بالولاية، عكف لسنوات على تدوين تاريخ تِيمِيمُون الثقافي فأنتج مؤلفات عديدة وفّقه الله في نشرها، أهداني منها مشكورا العناوين التالية:
- احتفالية أسبوع المولد النبوي الشريف،دار صبحي للطباعة، غرداية، 2022م.
- البيوتات العلمية بڤورارة، دار صبحي للطباعة، الطبعة الأولى، 2022م.
- الفڤارة نبع وروح، دار وَمْضَة للنشر، جيجل، 2024م.
شهادة الدكتور عبد الحميد يحياوي المسيلي
من الصدف الجميلة أنني التقيت الدكتور عبد الحميد يحياوي (أستاذ جامعي في الفلاحة سابقا من منطقة مسيلة) اعتاد زيارة تيميمون. وقد حدّثني عن غنى التراث الأمازيغي غير الماديّ في هذه المنطقة الجميلة، مشيرا إلى ضرورة تدوينه حتى لا يضيع، وقد كلفني بإيصال ندائه إلى المحافظة السامية للأمازيغية. وذكر في سياق الحديث عن التراث الأمازيغي أنه زار مدينة أسوان أثناء دراسته بمصر، وبينما كان يتجوّل ذات يوم في حديقة النباتات في موقع أثريّ (معبد هابو) التفتت إليه موظفة مكلفة بشرح الرسوم والجداريات (دليل) سبق له أن تعرّف عليها من قبل، فقالت له: «هذه الجدارية تروي إنجازات أجدادك النوميديين في الحضارة الفرعونية»، وكان ذلك سنة 1986م.
الخلاصة
سعدتُ كثيرا بزيارة ولاية تِيتِيمُون المضيافة التي وسع تراثها جميع مكوّنات الشخصية الجزائرية من أمازيغية وعربية المنصهرتين في بوتقة الإسلام. وأحسن السيد محمد زازة (مدير الثقافة) توصيف تِيمِيمُون بكونها أمًّا حاضنة لكل الثقافات، تحسن استقبال الوافدين إليها. وتعتبر من منارات القرآن والتصوف السّني في الجزائر، تعجّ أيامها بالزيارات الروحية لأضرحة أولياء الله الصالحين.
مازالت فيها الأمازيغية حيّة تُرزق في معظم قصورها بتراثها ورصيدها اللغوي الثريّ وأسماء الأماكن، وهذا ما جعل المحافظة السامية للأمازيغية تولي اهتمامها لها لإدراجها ضمن اللغة الأمازيغية المعيارية.
من جهة أخرى، تعيش تِيمِيمُون قفزة تنموية كبيرة ستجعل مستقبلها أفضل من حاضرها. والجميل أيضا أن أبناء المنطقة قد شرعوا في الاستثمار، خاصة في مشاريع سياحية هامة، زرتُ بعضها كفندق جنان مالك، ومخيم وردة الرمال حيث شاهدت عائلة اُوروبية قدمت من ألمانيا في سيارة مجهزة للسفر الطويل. وعلمتُ أن بعض المؤسسات السياحية الخاصة تنظّم رحلات للسياح خاصة نحو الكثبان الرملية الساحرة التي يمكن التمتّع بها إما بركوب سيارات رباعية الدفع، أو بركوب جِمال بسعر معقول.
في الأخير، أشكر أهل ولاية تيميمون الذين احتضنوا فعاليات الاحتفال بالسنة الفلاحية الأمازيغية الجديدة بفرح وسرور. والشكر موصول أيضا إلى السلطات المحلية التي لم تدّخر أي جهد لإنجاح هذه التظاهرة الثقافية التي ستزيد في دعم اللحمة الوطنية بين الجزائريين.