خيرُ الإبداع ما انتفع به النّاس
ليس المبدع من يخطب في النّاس فيقنع، وإنما المبدع من يحوّل الخردة المهملة سُدًّا عظيما يمنع تمدّد فلول الفساد ويحاصر أوكار المنكر ومواطن الضّلال؛ فلا تتوسّع.. المبدع من يضرب بيد من حديد على أمّ رأس الغواية فيمنعها من التّسلّل إلى مواطن المستضعفين فلا تصل حرثا ولا نسلا.
وليست العظمة في اتّخاذ قرار لا يجد سبيله للإنفاذ، فتلك خطوة على طريق الفعل، لكنّ العظمة أن يتلو القرار إنجازُ ما تقرّر. فالقدرة على بناء السّدود المعنويّة الحائلة بين الحقّ والباطل فعل محمود. وإرادة الفعل المانعة من زحف الفساد على الصّلاح نيّة حسنة. لكنّ العظمة الأكبر هي قدرة بُناة هذه السّدود الماديّة على تعبئة من حولهم للمشاركة في الإنجاز وحملهم على الإعانة القويّة ليتخطّى الإنجاز الأنانيّات الهادمة للجهد الجماعي النّاسفة للأجر الفرديّ بالمنّ والأذى، إلى عمل جماعيّ تعاونيّ يشعر كلّ فرد أنه شريك في الأجر. وتلك رحمة اللّه الجامعة للخير المانعة من توسّع دوائر الشّر.
بهذا السّلوك الرّحيم النّاكر للذّات المتجرّد من الأنانيّة، تنتهي سيرة ذي القرنيْن عند محطّتها الثّالثة بتعاون على برّ هادم للإثم مانع للعدوان بجعل حدّ لزحف المعاندين وإيقاف محاولات تسلّق المعتدين: ((فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)) (الكهف: 97).