-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دلالات مستقبلية لِحراك المآزر البيضاء…

محمد سليم قلالة
  • 3805
  • 11
دلالات مستقبلية لِحراك المآزر البيضاء…

الحراك الاجتماعي الذي تسارع في المدة الأخيرة يبدو مختلفا عن غيره من حيث النوع والدلالات المستقبلية، ذلك أنه لم يعد يخص الفئات الاجتماعية الهشة، بل انتقل إلى فئات جديدة، كانت تقليديا، تُعَد متميزة بموقعها كنخبة، وفَوق الصِّراعات المختلفة، مثل الأطباء والصيادلة والأساتذة، وما كانت يوما لتأخذ بزمام مبادرة محاولة تغيير واقعها بنفسها كما يحدث اليوم…

نادرا ما كان أصحاب المآزر البيضاء يُعبِّرون عن مشكلاتهم وعن مواقفهم من خلال الاحتجاج  المباشر عبر المظاهرات والاعتصامات، وقليلا ما كانوا يُعرِّضون أنفسهم لمواجهات مباشرة مع القوات النظامية التي تم تدريبها خصيصا لمكافحة المشاغبين. باستمرار كانت مثل هذه الفئات تعتقد أنها ليست مشاغبة ولا ذات طبيعة مَطلبية، باعتبارها قادرة على ضمان مكانتها الاجتماعية في أي نظام سياسي قائم.

تقليديا لم يكن لهذه الفئات ـ كقوة مجتمعية ـ دور الريادة في عملية التغيير. كان بإمكان عناصرها  التحرك في المجال السياسي أو النقابي كأفراد وليس كفئات اجتماعية متضامنة. وكانت بهذه الطريقة تُحقِّق أهدافها، وتَضمن مكانتها في السُّلَم الاجتماعي. كان هذا شأن الأطباء والأساتذة الجامعيين على وجه التحديد، نادرا ما كانوا يضعون أنفسهم في موقف المواجهة المباشرة أثناء الاحتجاج. الفئات العمالية الأخرى الأكثر تضررا من عمال بسطاء وبطَّالين ومُهمَّشين في المدينة خاصة، هُم مَن كانوا عادة يُشكِّلون مادة الشارع الاحتجاجية، ويواجهون قوات الشغب ميدانيا.

المسألة تبقى، بعد أكثر من ربع قرن، بدون حل، وتُطرَح اليوم في صيغة جديدة عندما نلاحظ أن نخبة المجتمع في رمزية الأطباء التي يمكن أن نضم إليها ملايين الجامعيين والمتعلمين المتخصصين في كافة المجالات، إنما تشعر بأنها مُهمّشة جراء فشل القائمين على إدارة الشأن العام في التعامل معها في مسألة توزيع السلطة.

حدث في مرات قليلة أن واجه أصحاب المآزر البيضاء القوات النظامية بصدورهم، أو أصّروا على قيادة المواجهات بمفردهم، أو شعروا بأنهم متضررون مثلهم مثل بقية الفئات الاجتماعية من حيث الممارسات السلطوية المختلفة، على خلاف ما أصبح بارزا للعيان هذه المرة من كون هذه الفئات أصبحت مُستعدة لتنتزع حقوقها بنفسها من خلال التظاهر والتفاوض العلني وليس من خلال المطالبة الصامتة بالحقوق. لقد غيَّرت لأول مرة من أسلوبها في التعامل مع واقعها، وأبدت استعدادا واضحا لأخذ زمام المبادرة بيدها. ما الدلالات المستقبلية لذلك؟

وقفتُ ملِيَّا منذ يومين على واقع تظاهر الأطباء المقيمين بمستشفى مصطفى الجامعي، شاهدتُ كيف كانت مربعاتهم الاحتجاجية منظمة حسب القطاع الصحي، وكيف كانت شعاراتهم المكتوبة والمعبَّر عنها، واضحة ومُدوية بلا خوف ولا تردد، بل لقد صيغت الشعارات بهذا المعنى “y’en a marre” أو “ماتخوفوناش”… للتعبير عن رفضهم للواقع الذي يعيشونه، هذه المرة ليس كأفراد إنما كفئة اجتماعية عادة ما تُصنَّف ضمن النخبة غير المُحتَجة. وهل يوجد أعلى من التعليم الجامعي المتخصص في السُّلَّم الاجتماعي؟

وبالفعل هي كذلك، ولكنها مع ذلك وجدت نفسها اليوم، تلجأ إلى آخر الأدوات المَطلبية التي عادة ما يكاد يستخدمها العُمَّال البسطاء، ومعنى ذلك أنه لم تبق هناك فئة اجتماعية بمنآى عن الاضطراب الحاصل في بنية المجتمع، وأن هذا الاضطراب قد بلغ مداه في الآونة الاخيرة وبإمكانه أن يتحول إلى انفجار اجتماعي من غير الممكن التحكم فيه. ولن تكون حركة الأقمصة البيضاء سوى التعبير الأخير عنه، مادامت هي الأخرى لم تستطع التحمل.

وهذا ما يجعلنا نستخلص ثلاث مسائل من الوضع القائم:

ـ أن هناك لا تناسبا حادا بين توزيع المعرفة في المجتمع وتوزيع السلطة (بما في ذلك سلطة المال).

ـ أن التوازنات الاجتماعية على أساس توزيع الريع والتحكم في السلطة من خلال هذا التوزيع بلغت مداها أي حدها الأقصى.

ـ أن الفئات الاجتماعية غير أصحاب المآزر البيضاء تعيش ضررا أكبر، إلى درجة أنها لم تعد قادرة على التعبير عنه مما يُهدِّد بالفعل استمرار علاقتها السلمية مع السلطة.

وإذا بدأنا بالمسألة الأولى فإننا سنلاحظ ـ حسب تعبير عالم الاجتماع والمستقبليات الأمريكي، “ألفين توفلر” ـ أن التوازن في أي مجتمع إنما يكون وفق معادلة المعرفة ـ السلطة، أي كلما تحصَّلت فئات اجتماعية على قسط من المعرفة كلما كان مفروضا على النظام القائم تمكينها بما يناسب ذلك من سلطة “سلطة القرار” أي السلطة السياسية وسلطة المال (أي الاقتصادية والاجتماعية)، وأي خلل في هذه المعادلة سيؤدي حتما إلى اضطرابات اجتماعية يصعب التحكم فيها. ويبدو أننا عشنا في الجزائر بحق هذه المعادلة في بداية التسعينيات، حيث لم يكن الاحتجاج الاجتماعي والسِّياسي الذي ساد في تلك الحقبة إلا نوعا من المطالبة بإعادة توزيعٍ للسلطة متناسبا تناسبا طرديا مع ما حدث من توزيع للمعرفة في المجتمع خلال حقبة الاستقلال جرّاء ديمقراطية التعليم. وبالرغم من أن ذلك الاحتجاج أخذ في حينه الطابع الديني، إلا أن حقيقته كانت غير كذلك، بدليل انضمام فئات واسعة من حملة الشهادات إليه، بل وترشحها بكثافة في الانتخابات التشريعية أنذاك. وكانت النتيجة المعروفة: بدل التكيف مع التبدل الحاصل في المجتمع، تمت مواجهته وقمعه مما أدخلنا في أكثر من 10 سنوات من الإرهاب.

المسألة ذاتها تبقى، بعد أكثر من ربع قرن، دون حل، وتُطرَح اليوم في صيغة جديدة عندما نلاحظ أن “نخبة” المجتمع في رمزية الأطباء التي يمكن أن نضم إليها ملايين الجامعيين والمتعلمين المتخصصين في كافة المجالات، إنما تشعر بأنها مُهمّشة جراء فشل القائمين على إدارة الشأن العام في التعامل معها في مسألة توزيع السلطة، التي تُعد في حالة الأطباء، تمكينهم من الحقوق التي تُعيد لهم الاعتبار في مجتمع أصبحت الأولية فيه لسلطة المال “الجاهل”. إنهم يقولون بالمختصر المفيد، ينبغي أن نكون نحن أكبر من سلطة المال، خاصة وهم يعرفون أنه أصبح مرتبطا بالجهل والفساد. وهم في هذا الجانب مُحقّون، ذلك أن التغول الحاصل اليوم في المجتمع الجزائري من قبل أصحاب المال الجاهل ـ بدون معرفة ـ أصبح يشكل خطرا ليس فقط على الأطباء أو المجتمع إنما على السلطة والدولة ذاتها، وهذا الذي ينبغي أن نُصحِّحه، إذا أردنا بالفعل التقاط هذه الإشارة الحاملة للمستقبل والبناء عليها لتصحيح الأوضاع.

لعلنا لا نشعر بالآثار التي ستترتب على ذلك اليوم، بحكم أننا نعيش اللحظة الآنية، ولكن التصور البعيد المدى يضطرنا إلى الإسراع بالتحذير، من السرعة المتوقع أن ينتقل بها الاحتجاج النخبوبى إلى الاحتجاج المجتمعي الشامل. ولا أظن بأنه سيكون باستطاعتنا التحكم فيه إذا حدث، إلا إذا قبلنا بتغيرات جذرية في طبيعة السلطة ورموزها، وهذا لن يكون في حالة بلادنا ذات التركيب السلطوي الخاص بالأمر الهين، كما لن يكون دون فاتورة كبيرة إلا إذا أحسنَّا استباق ما سيحصل في العقود القادمة.

وفي هذه الحالة نكون أمام الاختيار بين تصحيح ثلاث معادلات:

ـ الأولى، من خلال إعادة التوازن بين سلطة المال والمعرفة، حيث يتم التقليل من هيمنة الأولى على الثانية في مرحلة أولى، ثم إعادة زمام المبادرة لسلطة المعرفة على حساب المال كخيار طبيعي لمجتمع يريد تحقيق التقدم.

ـ الثانية، من خلال فصل الفئات الأكثر معرفة (في رمزية أصحاب المآزر البيضاء) عن بقية المجتمع بمشاركتها في جزء من سلطة المال كما تفعل الأنظمة الملكية وبعض الأنظمة الشمولية، أي شراءها بطريقة أو بأخرى. وهذا لن يُحدِث تقدما إنما سيزيد الفئات الهشة هشاشة، ويحولها إلى فئات لا مانع أن تكون محل قمع مستمر قد يدفع بها إلى الثورة أو الانتحار.

ـ الثالثة، أن يتحول التعاطف الشعبي مع أصحاب المآزر البيضاء وما يرمزون له من فئات اجتماعية مماثلة، إلى تحالف خارج السلطة القائمة، مما سيؤدي إلى اضطرابات هيكلية كبرى يصعب التحكم فيها، وقد يخسر فيها الجميع وهو أسوأ الاحتمالات.

لذا، فإنه من قبيل الاستباق الفعلي للأزمات المتوقعة لمجتمعنا أن نسارع  من الآن إلى تصحيح المعادلة الاجتماعية ـ السياسية في بلادنا وفق النموذج الأول باعتباره الأكثر قدرة على وضعنا على الطريق الصحيح، والأكثر استجابة للدلالات المستقبلية لحراك المآزر البيضاء…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
11
  • بدون اسم

    الوقت متأخر الكعكعة اقتسموها.

  • ابو نجيب

    طرح جميل ياأخى هذا يدل على انك حريص على وطنك لاكن من تخاطب تخاطب حكومة زمام امرها ليس بيدها تخاطب فى اشخاص يقيلون رئيس حكومة فى مقبرة. هاؤلاء لو يبيدون اصحاب المآزر البيضاء لايتحرك لهم جفن طبيبهم فى فرنسا. ام تعليمنا فان لله وان له راجعون

  • رمضان

    ملاحظتك صحيحة يا أستاذ، الحتجاج اليوم وصل الى الفءات الاجتماعية المتعلمة وهذا الاحتجاج من طرف المتعلمين سيزداد نظرا لتزايد اعداد الطلبة المتخرجين وعدم قدرة النظام على احتواءهم بسياساته التخديرية.هل سيرقى هذا الاحتجاج الى احتجاج سياسي أم سيبقى منحصرا في المطالب الاجتماعية الفئوية هذا هو السؤال الكبير وهذا هو التحدي الذي يواجه الطبقة السياسية العاجزة عن مواكبة هذا الحراك, الحل في نظري ليس في توزيع السلطة من طرف النظام القائم لأن هذا سيكون انتحارا بالنسبة اليه بل الحل يكون بتأطير هذا الحراك سياسيا

  • BESS MAD

    ما أوجع العقول و ما أصابها بشلل من درس أو درّس المنطق ،التصرفات السياسوية التي اشترت (السلم) بتوزيع المال العام و المناصب على غير مستحقيها .ما يؤلم حقا توظيف من لفظتهم المدرسة فصاروا ينكتون بأسيادهم الذين أشبعوهم هراوة لعدم قدرتهم على مجارة أقرانهم على مقاعد الدراسة . فكيف لوزارات تصاب بشح المورد بينما أخرى أصابتها التخمة .الصراع و الحرب الدائرة في وزارة الشباب و الرياضة و التبذير العلني على سبيل المثال لا الحصر مؤشر من المؤشرات التي أفاضت الكأس و أخرجت من وصفتهم إعلامية برلمانية امس بالحثالة.

  • محمد

    مقال ممتاز يا أستاذ .. لكن هناك نقطة مهمة نسيتها ...وهي معادلة معرفة+أخلاق...فالمعرفة وحدها إن أعطيتها المال ..ستعطيك أشخاصا مثل صانع القنبلة الذرية..أو مخترع السلاح الكيمياوي ..الخ...يعني حتى الطبيب إن غابت عنه الأخلاق - أو الإحساس، التعاطف، التواضع ، الجانب الأيمن من الدماغ- يكون طبيبا يقوم بعمليات الإجهاض..أو عميلا مرتشيا لدى مخابر الأدوية العالمية يصف دوائها حتى وهو يعرف أن ذلك الدواء لن ينفع المريض ..لمجرد رحلات تكوينات بالخارج ودورات وملتقيات وبعض البقشيش تدفعه تلك المخابر أو وكلائها.

  • ابن الجنوب

    تتمة:وكانوايعتقدون أنهم في منآى عمايدورفي المجتمع من هزات ولكنهم نسواأن عملية فرنسة التعليم ماهوإلا وسيلةمن وسائل خلق التبعيةالفكريةوالثقافيةواللغويةوالتي تمثل في الواقع أحدأهم روافد بناء المجتمعات المتماسكةفي الداخل من هناجاءنمو مرض الإنفصام الذي اصاب النخبةالعلميةوأصبحت تدرس هناوتتطلع إلى هناك فجاءت عمليات الحصار والضغط في الجزائروفتح الأبواب هناك لإستكمال قوة الطرد المركزيةلإفراغ المجتمع من نخبته العلميةوإدخال المجتمع في عمليات إهتزازدائمة تمهيدا لفوضى هادئة ومدمرة وهو مايسمى بالتدمير الذاتي

  • ابن الجنوب

    حلقات الزمن مترابطةالحلقات مثل السلة الحديدية تماماوهوماينطبق تماماعلى آليات الحركات الإجتماعيةفي جميع المجتمعات والحلقات في هذه الحالةهي القيم الإجتماعيةوالدينيةوالإقتصاديةوالتاريخيةأي المنظومة متكاملةوفي حالنا نحن فإن حلقات المجتمع غيرمترابطةبين ماضي الآباءوالأجدادوبين أحفادهم فطرفاالسلسلةعائمان لذلك كان من السهل التلاعب بهما بسهولةوكمثال نأخذ التعليم الذي يمثل العمود الفقري فتعليم أبناءناالطب والمواد العلميةوالتقنيةباللغةالفرنسيةجعلهم يعيشون الإغتراب داخل المجتمع وهو ماتركهم بعيدون عن واقعهم

  • بدون اسم

    شكرا لك يا دكتور لقد وضعت يدك على الجرح مباشرة ، فهل من مسؤول يأخد بهدا التحليل في وضع الحلول ؟

  • بدون اسم

    السلام عليكم
    شكرا ..
    ... المال إذا اقترب من الجاهل يصبح كارثة - متسلط -
    وإدا اقترب من السلطة يصبح قنبلة - انفجار الجبهة الاجتماعية -
    لأن جمجومته صيقـــــة أي تفكيره ضيـــــــق ومحـــدود
    - في غيبوبــــــة أو خــــارج مجال التغطيـــــة "
    لا يعــــــــــــــي حقيقة الأمور ولا يبــــــالي بمن حوله ،
    - في راسه ساكنة بانكاااااا !؟
    كل الأشياء يراها -تيكي -دراهم وبس
    وشكرا

  • بدون اسم

    لنكن صرحاء وواقعيين.فلو أن الارهابي نتانياهو هو رئيس الحكومة الجزائرية .هل كان هؤلاء الأطباء والتربويين وغيرهم من الفئاة المحترمة تواصل الاضرابات لأزيد من شهر .أجزم أنه لن يحدث هذا الاضراب أكثر من يومين..لأن الوزارة الأولى أو المعنية بالحراك سيتدخل رؤساءها ويتحاورون ويتوصلون للحل المرضي لكلا الطرفين..وينتهي المشكل .لكن حكومة المشكر وذوي التعليم والمستوى التعليمي البسيط وهي قاعدة هؤلاء الكائنات المستوزرة لاتجيد غير الهروب الى الامام لأنها ليست أهلا للاستوزار أصلا.مكانهم الحقيقي المقاهي وليس الوزا

  • بدون اسم

    تحليل ممتاز شكرا