دولة الفكرة

بعض الكتب كبيرة ولكن موضوعاتها تافهة أو حقيرة كأكثر الروايات التي نسمع عنها، ويضيع كثير من الناس أوقاتهم في كتابتها أو قراءتها، وبعض الكتب صفحاتها قليلة وموضوعاتها جليلة.
من هذا النوع الأخير من الكتب عنوان هذه الكلمة “دولة الفكرة”، فهو كتيب صغير ألفه أستاذ قدير هو الدكتور محمد فتحي عثمان، وهو أستاذ مصري عمل مدة من الزمن في الجزائر مستشارا في وزارة الشؤون الدينية، ثم أستاذا في جامعة وهران. وكان شديد الإعجاب بفكر الإمام ابن باديس، وله كتاب عن سلفيته المتنورة، وبفكر الأستاذ مالك ابن نبي.
ومن أهم كتبه كتابه القيم عن الحدود الإسلامية – البيزنطية، وهو رسالته لشهادة الدكتوراه، وكتابه عن “التفسير الإسلامي للتاريخ”، وهو رد على رموز المذهب المادي – اليساري في التاريخ الإسلامي، وكتابه المسمى “الإسلام للواقع”، وهو رد على الهائمين في أودية التيه، ولا يعالجون قضايا الأمة في ضوء تعاليم دين الله القيم ومبادئه الواقعية السامية.
في هذا الكتيب “دولة الفكرة”، الصغير الحجم، القليل الصفحات، يتحدث الدكتور عن هجرة الرسول – عليه الصلاة والسلام – إلى مدينة يثرب التي تنوّرت بهجرة الرسول إليها، وإقامته دولة الإسلام فيها.
هذه الدولة البدعة من الدول لم تقم على أي حتمية من الحتميات التي تقام عليها الدول، خاصة في الأزمان القديمة، فلا حتمية جغرافية، ولا عرقية، ولا طائفية… ومعنى ذلك لو أن الذين بايعوا رسول الله في العقبة كانوا من اليمن أو العراق أو فارس أو الشام أو مصر أو الحبشة لذهب معهم الرسول الكريم. فهذه الدولة ضمّت العربي كعمر بن الخطاب، والحبشي كبلال بن رباح، والفارسي كسلمان، والرومي كصهيب، وكان فيها الأبيض والأسود والعوان بين ذلك، وقد قامت هذه الدولة في المدينة ولكنها لم تكن للأوس ولا للخزرج، كما لم تكن للأنصار أو للمهاجرين..
إن أساس هذه الدولة هو الإسلام الحنيف الذي لا ينتسب لقوم كاليهودية، ولا لشخص كالمسيحية، ولهذا قال المستشرق الفرنسي لويس غاردي إذا كانت المسيحية تتمحور حول شخص، فإن الإسلام يتمحور حول “كتاب”.
إنها دولة غير عرقية، ولا عنصرية، وهذا ما لفت نظر أكبر مؤرخ في القرن العشرين، وهو أرنولد توينبي، فقال في كتيب له اسمه “الإسلام والغرب والمستقبل”، إنه لا دواء لداء العنصرية المقيت في العالم إلا عن طريق الإسلام. فيا ليتنا – نحن المسلمين – “نفقه” هذا الدين القيم ونقيم عليه حياتنا.
هنيئا للمسلمين بعامهم الجديد، وندعو الله – البرّ الكريم – أن يوفقنا لجعله عام خير وبركة، وأن يهدي – وهو الهادي – الضالين من المسلمين وغير المسلمين، فقد عانت الإنسانية كثيرا من ظلم الظالمين وطغيان الطاغين، وأن يأتي الناس جميعا رشدهم حتى لا يظنوا السراب شرابا.