ديمقراطية على طريقة بافلوف!
يبدو أنّ التجربة الديمقراطية في بلادنا، واستنادًا إلى البُعد الانتخابي منها، تشبه تماما نظرية “بافلوف” في واقعها ومآلاتها الآنيّة والمرتقبة، وفق قاعدة “المثير والاستجابة”.
لقد يمّم الجزائريون وجوههم نحو صناديق الاقتراع 16 مرّة، منذ استئناف المسار الانتخابي في 1995، وهذا للمشاركة في الاستحقاقات التشريعية والمحلية والرئاسية المتعاقبة، لكن النتيجة برأي الكثير منهم “صفر” على الشمال!
غداة كل موعد انتخابي، نسمع نفس الاتهامات والتبريرات من كافّة الأطراف، لتبقى دار لقمان على حالها، فلا الديمقراطية تقدّمت، ولا الأوضاع تحسّنت، ولا الطبقة السياسية تغيّرت، ولا الطامحون إلى الحكم بلغوا مُرادهم..
أسوأ من ذلك، فإنّ تعداد اليائسين من العملية الانتخابية في تنام مطّرد، وجيوش العازفين عن الشأن العام، من الشباب والمتعلمين على وجه الخصوص في تزايد ملحوظ، ما يُنبئ بشرّ مستطير.
التفسير الملائم لدوافع “القطيعة” غير المعلنة مع الجميع، هي تلك القاعدة الطبيعية التي انتهى إليها “بافلوف”، وسمّاها “قانون الكفّ الداخلي”، أي إذا تكرر ظهور المُثير الشرْطي (الانتخابات) لفترة من الزمن، دون تعزيزه بالمثير الطبيعي (التغيير)، فإنّ فعل المنعكس الشرطي (المشاركة) يضعف ويضمحلّ تدريجيا، وفي النهاية ينطفئ، أي لا تظهر الاستجابة الشَّرطية (المقاطعة)، وحسب التجربة التي اعتمدها “بافلوف”، فإنّ كمية اللعاب تأخذ بالنقصان شيئاً فشيئاً حتى تتوقف تماماً، إذا تكرر قرع الجرس دون تقديم الطعام!
ما يعني الآن أنه يتوجّب على السياسيين، في الموالاة والمعارضة، الانتقال إلى “قانون الاستثارة”، وهو القاعدة الثانية في نظرية “بافلوف”، ويتضمن هذا القانون المزاوجة بين المُثير الشَّرطي وغير الشرْطي، مما يؤدي إلى أن يكتسب الأول خواص الثاني ويقوم مقامه، لأنّ الحالة الجزائرية في حاجة إلى ترويض دستوري وقانوني وإداري وذهني وسلوكي، حتّى نضع في المدى المتوسط على الأقل رأس القاطرة على السكّة القويمة!
يجب الإقرار بأنّ مشكلة التحوّل الديمقراطي في الجزائر، وعلى غرار التجارب الانتقالية الأخرى، هي أزمة معقّدة ومتعددة الأوجه، قد يكون غياب “الإرادة الفعليّة” في تحرير السلطة، أبرز مسبِّباتها، لكنها في العمق معضلة تاريخية وثقافيّة واجتماعيّة بالأساس.
وعليه، لا يمكن صناعة الديمقراطية بجرّة قلم، أو بقرار دستوري، حيث يستيقظ المجتمع ذات صباح جميل، فيجد نفسه وسط جنّة ديمقراطية غنّاء، بل دون ذلك جسر كؤود من المشاقّ والآلام والإخفاقات، يتراكم فوقه الصّرح الديمقراطي على أسس متينة.
وقبل أن نتأهّل، سلطةً وشعبًا، لتدشين عهد الديمقراطية عبر صناديقها الشفّافة، سنظلّ في حاجة دائمة إلى تمثّل نظريّة “بافلوف”، حتّى نتروّض جميعًا على التعايش والتداول وقبول الآخر، وإعلاء المصلحة العامّة على المآرب الخاصّة.