ربيع الاستخبارات الفرنسية.. قصة الوحش الأمني الباحث عن الاستقرار

أول تغيير حقيقي كبير عرفه مجتمع الإستخبارات الفرنسية كان في شهر ماي من سنة 1991م. كان ذلك على مستوى الإستخبارات العسكرية، التي كانت من المنسيات الأمنية لمدة تتجاوز عشر سنوات، وهي التي أظهرت عجزها وعدم كفاءتها خلال الحرب الباردة. عرفت، في الواقع، المصالح السرية الفرنسية انتعاشا مهمّا منذ نهاية الحرب الكورية، في ظل فتور علاقاتها مع نظيرتها السابقة السوفييتية، هذا بالإضافة إلى غياب التوجيه السياسي (مشروع سياسي يوصل العمل الإستخباراتي الفرنسي)، وموقف فرنسي متماسك خلال سقوط كوريا الجنوبية.
يعود هذا الإدراك إلى الهجوم الإرهابي الذي وقع في صائفة سنة 1986م، إذ لم يكن آنذاك رئيس الوزراء الفرنسي جاك شيراك (1986م-1988م) راضياً عن مردود الأجهزة السرية، ما دفعه للتفكير في إنشاء منظمة استخباراتية جديدة.
استقبل في 14 أفريل 1987م آلان جوبي في مقرّ وزارة الموازنة أعضاء مجموعة “المستقبل والعمل”، المكلفة بإجراء مراجعة على المستوى التنظيمي الجمركي بهدف التجهّز لاستحقاقات سنة 1992م الخاصة بتأسيس السوق الأوروبية الموحدة. من بين أهم المقترحات المقدَّمة، كان “إنشاء مديرية استخبارات وطنية مستقلة عن المديرية الوطنية للتحقيقات الجمركية [DNED]، حتى تُجمع المديريتان تحت سلطة واحدة”.
وقد مكن تعيين أحد أعضاء المجموعة، والأمر يتعلق بجان هنري هوغيت، على رأس المديرية الوطنية للتحقيقات الجمركية (1987م-1991م)، من تحقيق هذا الهدف. لقد أتاحت له العديد من الزيارات التي قام بها على مستوى دائرة التحقيقات الوطنية للجمارك والضرائب في لندن، وحرس المالية في روما، ولقاؤه مع العميد جان هاينريش بمديرية العمليات التابعة للمديرية العامة للأمن الخارجي (1987م-1991م)، ناهيك عن لقائه بالقائمين على مجلس التعاون الجمركي في بروكسل، أتاحت له افتتاح مديرية الإستخبارات الفرنسية في 01 مارس 1988م. كما سمح الجهد الإداري الذي بذل داخل إدارة التحقيقات الوطنية الجديدة حصوله على وضع ضابط الشرطة القضائية (في الفترة الممتدة بين سنتي 1988م و2001م)، ناهيك عن استفادة الجمارك الفرنسية من حصولها على مديرية استخبارات خاصة بها.
لقد أحيت هذه الأخيرة التاريخ البعيد لدائرة قمع الاحتيال الجمركي، إذ كان يجري انتداب ضباط الشرطة القضائية فقط، في وقت كان ضباط الجمارك النقابيون ينفذون عمليات خاصة مرتبطة بإجراءات دعم ومساعدة الجمهورية الإسبانية.
لم تتغير الأمور تقريبًا منذ ذلك الوقت، كما كان واضحا بالنسبة لعمليات إرسال المعدّات العسكرية التابعة لمجموعة الصناعات الفرنسية الفضائية، والتي كان يرأسها شقيق الرئيس الفرنسي الأسبق (فرانسوا ميتيران)، الجنرال جاك ميتران، إلى الأرجنتين، وذلك تحت غطاء تصدير المُعدَّات الزراعية، في ظل الحظر الذي قرره الإتحاد الأوروبي منذ 11 أفريل 1982م، بسبب الحرب التي كانت تخوضها ضد بريطانيا العظمى.
جرى التصدير من خلال لوكسمبورغ، عبر بريد أودون لو تيش، من قبل شركة الخطوط الجوية الأوروغوايانية “أيرو أوروغواي” والتي كانت تعمل بطائرة DC 8-63 CF التابعة لشركة كارغولوكس.
في 24 ماي 1982م، سلّطت صحيفة جوهانسبرغ اليومية، “ذُ ستار”، الضوء على هذه العملية وجدِّد عقد التأجير في 12 جوان من نفس السنة، لينتهي بعد يومين الصراع.
حصلت DNRED (المديرية الوطنية للمخابرات والتحقيقات الجمركية) على اعتمادها الرسمي سنة 2007م. وفي حدود وسائلها ومهامها، عملت بين عامي 2001م و2008م بالتعاون مع المديرية العامة للأمن الخارجي في سياق قنوات الهجرة الكردية غير الشرعية، عبر سوريا.
خضع جهاز المخابرات العامة الفرنسية، على نحو مماثل، لعملية تحديث كبرى؛ ففي الثامن والعشرين من فيفري 1991م، أصدر وزير الداخلية فيليب مارشان تعميماً يعيد من خلاله التعريف بمهامها. كان السياق هذه المرة مهماً للغاية: إذ جاء القرار الوزاري في قلب سلسلة من أعمال الشغب التي بدأت في “فو أون فيلين” في أكتوبر 1990م، لتنتهي في ضواحي باريس بين شهري مارس وجويلية 1991م. احتفظ في ذلك، بطبيعة الحال، جهازُ المخابرات الداخلية بمهمته المتمثلة في التنبُّؤ باتجاهات الرأي العامّ وقياسها. إلا أن هذا الأخير جُرِّد من دوره الرقابي على الأحزاب السياسية غير المتطرِّفة، وهي المهمة التي احتقرها غالبية ضباط الشرطة المسؤولين عن تنفيذها، وذلك من أجل إعادة التركيز وبشكل مهمّ على الفحص الدقيق لتوجهات التعبير عن المطالب الاجتماعية والدراسة المتعمقة للتوترات والتطورات التي من شأنها أن تطرأ على مستوى المجتمع المدني.
منذ إصدار مذكرة الخدمة في 19 مارس 1976م، أعادت الإستخبارات الفرنسية توجيه نفسها بالفعل نحو ما سمّته “الإرهاب الداخلي”، إذ لم تصبح عملياتُها السرية تستهدف هذه المرة عملاء تابعين لدول أجنبية، بل تجاوزت في ذلك كل الخصوصيات الحقوقية ومزاعم الحريات التي نشأ عليها المجتمع الفرنسي، ليصبح كل اهتمامهم منصبًّا على العنف الحضري، وكل ما من شأنه أن ييسر سبل الأنشطة الإرهابية، وهو ما أشار إليه في وقت سابق خالد كلكال، المسؤول الرئيسي -حسب المصالح ذاتها- عن موجة الهجمات التي ارتُكبت في فرنسا في صائفة 1995م.
وفي أقل من سنتين، تمكنت المصالح الإستخباراتية الفرنسية من تطوير “مقياس لتقييم العنف الحضري” وذلك من أجل مراقبة اتجاهات التوترات الناشئة بين الشباب والمنتسبين إلى مختلف أسلاك الدولة، على غرار كل من: رجال الإطفاء وضباط الشرطة. وهو ما جرى تنفيذه كذلك على مشكلة الطوائف، في إطار مقياس تقييمي تحدد من خلاله وإلى حد ما الطبيعة والخلفية الطائفية للجمعيات ذات الهدف والبُعد الفلسفي أو الديني. علما أن أدوات التقييم تلك، المصحوبة بإحصاءات وبيانات حول تطوُّر العنف الحضري، شكَّلت نقطة دعم رئيسية بالنسبة للخبرة الشرطية الفرنسية الجديدة.
لتكلَّف في نهاية المطاف دائرة المخابرات العامة بمضاعفة تدخُّلها في القطاعات الاقتصادية، خاصة من خلال إجراءات الكشف والتنقيب عن عمليات الاحتيال وغسيل الأموال. علما أن مهمتهم الأولى كانت تنحصر في توفير معلومات بخصوص صفقة شراء شركة تراينغل الأمريكية في نوفمبر 1988م من قبل بيتشيني وذلك لصالح الحزب الاشتراكي الفرنسي الحاكم آنذاك.
وقد أدت هذه المهام الجديدة إلى دفع جهاز المخابرات العامة إلى التواصل بشكل أكثر انفتاحًا أثناء المؤتمرات، وإجراء المقابلات الصحفية، ونشر المقالات في المجلات العامة أو شبه الجامعية.
لقد كان هنالك قدرٌ كبير من التفكير يحرك وزارة الداخلية الفرنسية، وذلك بهدف تحديد المجالات التي تقع في دائرة المصلحة العليا للدولة. حينها، كان وزير التعليم الفرنسي، ليونيل جوسبان، في قلب الجدل في الجمعية الوطنية وهذا منذ أن كشفت صحيفة “لو كوتيديان دو باري” الصادرة في 26 جوان 1991م استخدامه لموارد المكتب المركزي للمسوح والإحصاءات، وتحويله لموارد الدولة لمصلحته الشخصية.
استغرق الأمر ست سنوات أخرى حتى تترسخ فكرة مفادها أن الأحزاب السياسية تكتفي فقط بتمويلها العامّ لإجراء المسوحات. وللحصول على معلومات سياسية، عليها أن تدرك أن الحكومة تمتلك شبكة من المحافظين هم تحت تصرفها في أي وقت.
منذ إصدار مذكرة الخدمة في 19 مارس 1976م، أعادت الإستخبارات الفرنسية توجيه نفسها بالفعل نحو ما سمّته “الإرهاب الداخلي”، إذ لم تصبح عملياتُها السرية تستهدف هذه المرة عملاء تابعين لدول أجنبية، بل تجاوزت في ذلك كل الخصوصيات الحقوقية ومزاعم الحريات التي نشأ عليها المجتمع الفرنسي، ليصبح كل اهتمامهم منصبًّا على العنف الحضري، وكل ما من شأنه أن ييسر سبل الأنشطة الإرهابية.
وبعد أن ترسخت قناعة لدى وزير الداخلية آنذاك جان بيير شيفينمان مفادها أنه من الواجب على الوزراء أن يُشعروا بالرأي العامّ وأن يكون بمقدورهم تفسير تطوراته، من دون عودة إلى جهاز متخصص من الشرطة الوطنية. بناء على ذلك، قرر وضع حد لاستطلاعات الرأي التي كانت تقوم بها أجهزة الإستخبارات العامة. منذ ذلك الحين، اكتفت هذه الأخيرة بحماية المؤسسات ضد الإرهاب والصراعات الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى مكافحة العنف الحضري. إلا أنه وعند كل استحقاق سياسي كبير، مثل الانتخابات الرئاسية، تجري دعوتها إلى هندسة ونشر شبكات تأطير المواعيد الانتخابية.
أدت هذه التغييرات إلى التفكير في تطورات أخرى. علما أن كلود جيان، المدير العامّ السابق للشرطة (1994م-1998م)، كان من أشد المعارضين لفكرة إنشاء “وحش أمني جديد”، أي دمج الحرس الوطني ومديرية مراقبة الأراضي. إلا أن مسألة ملاءمة مهام الأجهزة السرية للمصالح الأساسية للدولة أثيرت مرة أخرى، إذ سعى ميشيل روكار إلى إعادة التفكير في الإستخبارات الفرنسية، بحيث لن تعيش بعد الآن على نماذج الخمسينيات. لقد اكتسبت فكرة إنشاء جهاز استخبارات داخلي جديد له وظيفتان أساسيتان، هما:
ــ حماية المؤسسات من خلال البحث عن أولئك الذين من شأنهم أن يشكلوا خطراً على الديمقراطية (الحركات السياسية المتطرفة، النازيون الجدد، الفاشيون أو العنفوانيون) ومكافحة التدخل الأجنبي
ــ مكافحة التجسس، ومكافحة الإرهاب والأصولية والإنتشار النووي والبكتريولوجي والكيميائي، والإستخبارات الاقتصادية.
كانت الأفكار ذاتها تدفع، في الوقت نفسه، هيئة الأركان العامة للجيش الفرنسي، في نطاق كان أقل اتساعاً، إذ كان صناع القرار العسكري معادين لأي تساؤل من شأنه أن يثار حول التنظيم الاستخباراتي القائم، وهو ما أشار إليه سنة 1991م الجنرال ميرميت، بمناسبة الإخفاقات المتكررة للاستخبارات العسكرية الفرنسية والتي أدت إلى تفاقم المشاكل في القفص الأمني الباريسي.
في سبتمبر 1986م، أعيد تجميع مركز الاستخبارات العسكرية الفرنسية والمنظمات المرتبطة به (الاستخبارات الفوتوغرافية والكهرومغناطيسية) داخل مدرسة الاستخبارات والدراسات اللغوية المشتركة (EIREL) الواقعة في مدينة ستراسبورغ، مع مختلف مراكز تعليم اللغات في الجيش والقوات الجوية وفيلق العميد للقوات الفرنسية في ألمانيا. لم يكن هذا الأمر، بطبيعة الحال، من قبيل التشكيك في التوجهات الأساسية للاستخبارات العسكرية الفرنسية، ولا بتحسين قُدراتها. خاصة أن البديل الحقيقي كان قائما على إصلاح شامل للممارسات والمؤسَّسات، لتشكيل نظام أمني مستقلّ حقًّا، وبناء فرع “استخبارات عسكرية” داخل المديرية العامة للأمن الخارجي، من خلال استيعاب الجهاز القائم داخل مجتمع استخبارات خارجي واحد.
اتجهت هيئة الأركان العامة للجيش الفرنسي، من وجهة نظر تقنية، نحو الحل الأول، في حين فضَّلت المديرية العامة للأمن الخارجي الحل الثاني. كان ذلك من دون مراعاة لمواقف جماعات الضغط العسكرية ودخولها إلى العالم السياسي.
في ماي 1989م، وبعد شهرين فقط من ترك الجنرال فرانسوا ميرميت لمنصبه كمدير عامّ للأمن الخارجي، كُلِّف من طرف القوات الجوية الفرنسية بـ”مهمة تتعلق بالاستخبارات العسكرية وآفاق تطويرها على مدى العقد المقبل”، ليقوم على غرار ما قام به هوغي، إذ بدأ سلسلة من الجولات على رؤساء الاستخبارات العسكرية التابعة للدول الرئيسة العضوة في حلف شمال الأطلسي، ليقدم في سبتمبر 1989 تقريراً يقترح فيه ضرورة التوجه نحو الاستقلالية والتنسيق بين الأجهزة الاستخباراتية، الأمر الذي أثار حذر وتحفظ كلٍّ من السلطات العسكرية والسياسية. لم يؤخذ بعين الجدية تقرير ميرميت إلا بعد خيبة الأمل التي أحدثتها الحملة الأطلسية على العراق ووصول بيير جوكس إلى وزارة الدفاع الفرنسية. وطُلب من لجنة الدورة الثالثة والأربعين لمؤتمر الاستخبارات العسكرية (1990م-1991م)، التي ضمّت كلًّا من العقيد روندو من مكتب وزير الدفاع الفرنسي، والجنرال هاينريش من المديرية العامة للأمن الخارجي، أن تنظر في المسائل المرتبطة بـ”الاستخبارات العسكرية”. وعلى أساس استنتاجاتهم التي قدّموها في ماي 1991م، أقيل جوكسهاينريش من المديرية العامة للأمن الخارجي في سبتمبر من السنة ذاتها، ليكلَّف بعد ذلك بتطوير مديرية الإستخبارات العسكرية (DRM). كان الهدف من وراء ذلك هو منحها هيكلاً عملياتيا، بالإضافة إلى إطار إداري وتنظيمي ومالي.