رحلة الحجّ: مشاعر ودروس (2)

وأفئدتنا –هذه الأيام- مشرئبّة إلى هناك، إلى مكّة وعرفة ومنى مزدلفة، وإلى الكعبة المشرّفة التي يطوف حولها الطّائفون ويلتزم ركنَها الملتزمون ويقبّل حجرها الأسودَ المقبّلون؛ لعله يحسن بنا أن نتذكّر حديث النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “لهدمُ الكعبة حجرًا حجرًا، أهون من قتل المسلم”؛ هذا الحديث وإن ضعّف أكثر العلماء إسناده، إلا أنّ دلالته تشهد لها نصوص وآثار كثيرة؛ نستذكره ونحن نرى ملايين الحجّاج حول الكعبة يطوفون، ولعلّ ما لا يقلّ عن شطرهم بالحجّ متطوّعون، وهم بذلك –بإذن الله- مأجورون. وبإزائهم إخوة لهم في غزّة، يُطاف على بيوتهم بالطّائرات التي تهدّم بيوتهم وتحرّق خيامهم وتحوّل أجسادهم إلى ركام من الأشلاء والجثث المتفحّمة، وأطفال في عسقلان وأكناف بيت المقدس تركتهم أمّتهم للصهاينة يمنعون عنهم الطّعام والشّراب ويذبحونهم بالطّائرات المسيّرة، ولا يجدون من يحذو حذو هاجر فيسعى لهم في طلب الماء والغذاء!
عملٌ صالح أن يهتمّ المسلمون بالحجّ والعمرة، وسعيٌ مشكور أن يحرص بعض المسلمين على خدمة ضيوف الرّحمن، ويهتمّ العلماء ببيان مناسك الحجّ والعمرة. لكن لعلّ كلّ هذا لا يقارن بجهاد المجاهدين في أرض الرّباط، ولا بسعي من يبذلون أموالهم في عون المجاهدين والمحاصرين في أرض الإسراء. يقول الله تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين)).
عندما رأى الإمام عبد الله بن المبارك أخاه الفضيل بن عياض –رحمهما الله- منقطعا للعبادة في الحرمين، ذاهلا عن الجهاد في سبيل الله، كتب إليه رسالة قال له فيها:
يا عابدَ الحَرَمينِ لوْ أبصرْتَنا * لَعلمْتَ أنّك في العبادةِ تَلْعبُ
مَنْ كان يَخْضِبُ خدَّهُ بدموعِهِ * فَنُحُورُنا بِدِمَائِنا تَتَخَضَّبُ
أو كان يُتْعِبُ خيلَهُ في باطلٍ * فخيولُنا يومَ الصَّبِيْحَةِ تَتْعبُ
رِيْحُ العَبِيْرِ لكمْ ونحنُ عبيرُنا * رَهْجُ السَّنابكِ والغبارُ الأطْيبُ
ولقد أتانا مِنْ مَقالِ نبيِّنا * قَوْلٌ صحيحٌ صادقٌ لا يُكْذَبُ
لا يَسْتَوِي غُبارُ خَيْلِ اللهِ في * أَنْفِ امرئٍ ودُخَانُ نارٍ تَلْهَبُ
هذا كتابُ اللهِ ينطِقُ بَيْنَنا * ليس الشَّهيدُ بميِّتٍ لا يُكْذَبُ.
وعندما وقعت هذه الأبيات في يد الفضيل بن عياض، ذَرَفتْ عيناه وقال: صَدَق أبو عبد الرّحمن ونصحني، ثمّ كتب إلى ابن المبارك معترفا بالتقصير مستشهدا بحديث أبي هريرةَ –رضـي الله عنه- أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله علّمني عملاً أنال به ثوابَ المُجاهدين في سبيل الله، فقال: “هل تستطيعُ أنْ تصلّيَ فلا تَفْتُرَ، وتصومَ فلا تُفْطِرَ؟” فقال: يا رسول الله أنا أضعفُ من أنْ أستطيعَ ذلك، فقال النَّبيُّ -صَلَّى الله عليه وسلم-: “فو الذي نفسي بيده لو طُوِّقْتَ ذلك ما بلغْتَ المجاهدين في سبيل الله، أوَ ما علمت أنَّ الفَرَسَ المُجاهِدَ لَيَستَنُّ في طِوَلِهِ فيُكْتَبُ له بذلك الحسنات؟!”.
هذا ما قاله الإمام ابن المبارك للزاهد العابد الفضيل بن عياض الذي كان آية في الورع والتقوى، وكان محبّا للجهاد مثنيا على المجاهدين، فكيف لو أدرك ابن المبارك زماننا ورأى بعض علماء بلاد الحرمين يزهّدون في الجهاد ويطلبون ودّ معطّليه ويطعنون في المجاهدين؟!
كثيرا ما ترقّ قلوبنا لمشهد رجل يبكي على جبل الرّحمة في صعيد عرفات، أو أمّ تبتهل لخالقها على ذلك الصعيد الطّاهر. ومن حقّنا أن نعجب بتلك الصّور ونتمنّى أن لو كنّا مع أصحابها هناك.. لكنّ هذا مع فضله ومكانته، لا يساوي صبر وثبات الآباء والأمّهات في غزّة الذين ثكلوا في أبنائهم وحملوهم بين أيديهم جثثا هامدة، بل ربّما جثثا متفحّمة.. ليس هناك أيّ مشهد في صعيد عرفات يمكن أن يضاهي مشهد تلك الأم الغزاوية، الدكتورة آلاء النجّار، التي أنست الأمّة قصّة الخنساء، هذه المرأة التي تعمل طبيبة أطفال في مجمع ناصر الطبي بغزّة، كانت في المستشفى يوم السبت قبل الماضي، تسعف الأطفال، قبل أن تفاجأ بوصول جثامين وأشلاء متفحمة لتسعة من أطفالها الذين تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و12 سنة، إثر غارة جوية استهدفت منزلها في منطقة قيزان النجار جنوبي خان يونس، ليس هذا فحسب بل حتى زوجها الطبيب حمدي النجار وابنها الأخير آدم أصيبا إصابات بالغة وحُولا إلى العناية المركّزة، قبل أن يلتحق زوجها لاحقا بركب الشهداء. مشهد لا تصمد أمامه سوى الجبال الشّامخات، وسوى الأمّهات اللاتي تربّين على ثرى غزّة في حلق القرآن.
أميرة العسولي طبيبة من غزّة، رأى العالم قبل عام، في شهر فيفري 2024م، موقفها البطوليّ، حينما تحدّت رصاص القناصين الصهاينة وانطلقت كاللبؤة لتسعف جريحا، هذه الطبيبة المجاهدة، كتبت عن زميلتها الدكتورة آلاء النجار أم الأطفال الشهداء التسعة وزوجة الشهيد فقالت –باختصار-: “هذه الطّبيبة معجزة من معجزات العصر الحديث. هذه الدكتورة منهج يصلح تدريسه في أرقى جامعات العالم، ومثال صريح للإيمان الصادق غير الملوث بالنفاق وحب الظهور.. كانت حديثة التخرج حينما عرفتها. عملتْ في قسم الولادة بمستشفى ناصر الطبيّ. كنت ألحظ عليها التدين الصادق.. انتقلت بعدها إلى قسم الأطفال.. كنت أعجب لشدّة تحمّلها، كانت تتحمل مشاق الحمل والتربية والعمل كطبيبة أطفال لمناوبات كاملة! وما كانت تتعلّل ولا تعتذر من العمل.. عندما أصيبت بالفاجعة كانت كالجبل الأشمّ. وجها وأبناؤها ذهبوا من غير رجعة، طفلها المتبقي بين الحياة والموت، وبيتها اختفى من على ظهر الأرض.. لا عائلة، لا بيت، لا حياة. رغم ذلك لم ينجح الشيطان في زعزعة إيمانها. رفضت الظّهور أمام الكاميرات ورفضت اللقاءات الصحفية. لم تتخلّ قيد أنملة عن دينها ورزانتها. نجحت كاميرا أحد الهواتف في اختلاس صورة لها وهي مطأطئة الرأس رافضة الانتباه.. إنّها بحقّ معجزةٌ من معجزات عصر التيكتوك والرقص والتعري” ا.هـ
آلاء النجّار تستحقّ أن تأخذ اللقب من الخنساء التي فقدت 4 من بنيها، بينما فقدت آلاء زوجا و9 أبناء. فيا ليت نساء المسلمين في هذا الزّمان يلتفتن إلى آلاء النجّار، ويهتممن بسيرتها، بدل عكوفهنّ على الفنانات ومؤثرات مواقع التواصل!
نموذج آلاء النجّار، يعلّمنا أنّ أعظم وأنفع استثمار يمكن أن تستثمره الأمّة في هذا الزّمان خاصّة، ليس في تكرار الحجّ والعمرة، إنّما في إعداد الأمّهات الصّالحات المصلحات الصّامدات أمام زيف الحضارة، الأمّهات اللاتي يحملن همّ الدّين والأمّة ولا تغريهنّ بهارج الدّنيا الفانية، ويربّين في حجورهنّ رجالا يُصنع النصر -بعد توفيق الله- بهممهم وأيديهم.
لقد أصبح متعيّنا على علماء الأمّة أن يرفعوا أصواتهم عاليا وينصحوا المسلمين بأن يوجّهوا أموالهم لدعم المرابطين والمجاهدين، ودعم تلك النماذج الخالدة من الرجال والنساء الذين يذكّرون الأمّة بسلفها، ويرفعون هامتها، ويستنزلون نصر الخالق سبحانه.. هناك في غزّة رجال كالأسود في صولاتهم، وهناك نساء كاللبؤات في ثباتهنّ، وهؤلاء أحقّ بأموالنا التي ننفقها في حجّ التطوّع وفي تكرار العمرة، ومن باب أولى أموالنا التي ننفقها في التفاهات.