-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رحيل العلاّمة فؤاد سزكين (1924-2018)

رحيل العلاّمة فؤاد سزكين (1924-2018)

لا نعتقد أن الكثير من القراء يلمّون بدوْر مؤرخ العلوم العربية الإسلامية التركي محمد فؤاد سزكين. أما من عرفه من المختصين وعاشره فيعرف أنه جمع بين صلابة الأتراك وجدية الألمان… جمع بين هذا وذاك في سبيل العلم وإحياء تراثه العربي الإسلامي والتعريف به في بلاد الغرب قبل الشرق.

من هو فؤاد سزكين؟

توفي المؤرخ يوم السبت 30 جوان 2018 في اسطنبول، وقد بلغ من العمر 94 سنة، تاركا لبلده الأصلي (تركيا) مكتبة ومتحفا فريدين. تخصص سزكين في دراسة التراث العربي والإسلامي بعد أن أقنعه بذلك أستاذه المستشرق الألماني هلموت ريتر Hellmut Ritter (1892-1971) الذي عمل في اسطنبول من عام 1926 إلى 1949.
تحصل سزكين على الدكتوراه عام 1954 بتناوله الإمام البخاري ومصادره. ومن ثم صار أستاذا بجامعة اسطنبول في نفس السنة. لكنه اضطر فيما بعد إلى مغادرة تركيا نحو مدينة فرنكفورت الألمانية عام 1960 إثر الانقلاب العسكري الذي منعه من التدريس بالجامعة مع مجموعة من الأكاديميين ناهز عددهم 150 شخص. وفي جامعة فرنكفورت قدم عام 1965 دكتوراه حول الكيميائي جابر بن حيان وأصبح منذ ذلك الوقت أستاذا بنفس الجامعة.
أتقن سيزكين عددا كبيرا من اللغات، منها العربية والعبرية والفارسية والألمانية واللاتينية. وقد عكف منذ عام 1947 على كتابة تكملة لكتاب “تاريخ الأدب العربي” الشهير للمستشرق الألماني كارل بروكلمان Carl Brockelmann (1868-1956). لكنه عند القيام بجمع المادة التاريخية عثر على كمّ كبير من المخطوطات والمؤلفات فاقت كل توقعاته. وهو ما دفعه إلى أن يضع في مشاريعه العلمية مشروعا ضخما يتمثل في كتابة موسوعة “التراث العربي العلمي” باللغة الألمانية. وفي هذا السياق، يُذكر أن قبل وفاته كان بصدد تأليف المجلد الثامن عشر من هذه الموسوعة التي صدر جزؤها الأول عام 1963. لا حاجة لنا في هذا التقديم إلى حصر قائمة الجوائز والاستحقاقات التي فاز بها فؤاد سزكين… فهي كثيرة ومن دول عديدة في الغرب والشرق.
قام سزكين بجمع المخطوطات العربية في الشرق والغرب، وترجم كثيرا منها إلى الألمانية وحققها. وهو يؤمن بأن التطور العلمي عند المسلمين كان شاملا مسّ كافة فروعه. وهكذا نشر موسوعته “تاريخ التراث العربي” في أجزاء، منها 6 مجلدات في علم الفلك و5 في الرياضيات و4 في الكيمياء والزراعة والنبات و3 في الطب والصيدلة والبيطرة وعلم الحيوان… ومعظمها ترجمت إلى اللغة العربية وصدرت عن جامعة الإمام بالرياض.

معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية

لم يشتهر سزكين بإصدار هذه الموسوعة الفريدة من نوعها فحسب بل ذاع صيته بين الباحثين أيضا عقب مبادرته العلمية في مطلع الثمانينيات حين أنشأ معهدا لتاريخ العلوم العربية والإسلامية في مدينة فرانكفورت. وكان التمويل عائقا كبيرا لكن شخصية سزكين ومكانته العلمية وجديّته جعلت 14 دولة عربية تسهم في إنشاء المعهد الذي افتتح عام 1982، وعلى رأسها الكويت التي تبرعت آنذاك بما يعادل 3.5 مليون أورو لتشييد مبنى المعهد. كما استفاد المعهد من عديد الهبات أتته من الشرق والغرب. وتُعدّ هذه المؤسسة مركز بحث في التراث العلمي العربي الإسلامي أشرف عليه سزكين حتى أحيل على المعاش. ويتوفر في المعهد الآن أزيد من 25 ألف مجلد و7 آلاف مخطوطة في متناول الباحثين في تاريخ العلوم العربية وتطوّرها.
وفضلا عن ذلك نجد في المعهد متحفا تُعرض فيه أجهزة علمية قديمة صنعها الباحثون في المعهد بناء على وصفها ضمن كتب التراث العربي خاصة في مجالات الطب وعلم الفلك وعلم الخرائط. وهكذا ازدان المتحف بـ 800 آلة مطابقة للأجهزة والأدوات العلمية التي كان العلماء والحرفيون العرب والمسلمون قد صمموها واستعملوها بين القرنين 9م-16م… علمًا أن جلها كان مفقودا أو وصلتنا منه قطع متناثرة.
كما يُصدر المعهد مجلة أكاديمية، وهي “مجلة تاريخ العلوم العربية الإسلامية”، وينشر ترجمات للكتب العلمية العربية إلى اللغات الأوروبية، إضافة إلى عديد النشاطات الأخرى، مثل تنظيم الملتقيات واستقبال الباحثين في تاريخ العلوم. كل ذلك بفضل العمل الجاد والنفس الطويل الذي تحلى به الراحل فؤاد سزكين.
إن عملا كهذا لا يضاهيه إلا ما قام به العالم الباكستاني محمد عبد السلام (1926-1996) -الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979- عندما أسس عام 1964 المركز الدولي للفيزياء النظرية قرب مدينة تريست الإيطالية. وقد أصبح المركز منذ ذلك التاريخ إلى اليوم مقصد كل باحثي العالم الثالث في الفيزياء النظرية وحتى الرياضيات. فعبد السلام أيضا سلك نفس المسلك في جمع الأموال من الشرق والغرب، ومن العرب والعجم، لتمويل المركز وإنشائه ووضعه في متناول كل الباحثين والدارسين الوافدين من دول العلم الثالث.
ولأن فؤاد سزكين يحترم موطنه رغم إزدواجية جنسيته (فهو تركي-ألماني) فقد أسس عام 2008 في اسطنبول متحفًا مشابهًا لذلك الذي شيّده في ألمانيا. ودشن هذا المتحف رجب أردوغان الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس الوزراء. وعند وفاة سزكين قبل أسبوع نعاه أردوغان وشيّع جنازته بمعية رئيس حكومته الحالي والأسبق. وذكر الإعلام أن أردوغان أعلن قبل أسبوع بأن سنة 2019 ستكون “سنة فؤاد سزكين لتاريخ العلوم الإسلامية” في تركيا. والجدير بالذكر أن سزكين كان يقيم في اسطنبول خلال السنوات الأخيرة.
ذلك هو مؤرخ العلوم العربية الإسلامية فؤاد سزكين… وذلك ما قدمه للمؤرخين في شتى العلوم للغرب والشرق. لو كنا دولة تحترم العلم وأهله لأطلق اسمه على مركز أو أكثر من مراكز البحث عندنا التي تُعنى بهذا الاختصاص… وذلك أضعف الإيمان!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • متابع وفي لمقالاتك

    شكراجزيلا على مقالاتك ورحم الله علماء الأمة و الله يحفظك يا استاذ .

  • جزائري

    اللهم أغفر له وارحمه ، وأدخله فسيح جنانك .

  • هشيمالهاشمي

    عندنا نكرم ونشجع اللهو واللعب والفاشلين والسفهاء الذين يفسدون ولا يصلحون ؟!كي يؤمن شرهم ويزيد عبثهم بالعقول المريضة ونبقى في غيينا غافلين مغفلين ....؟!!! قد قرأت لتلك المستشرقة التي كتبت * شمس العرب تسطع على الغرب* ومما قالته أن ..أوربا تدين للعربووللحضارة العربية وأن الدين الذيفي عنق أوروبا وسائر القارات الأخرى للعرب كبير جداوكان يجب على أوربا أن تعترف بهذا الصنيع منذ زمن بعيد لكن التعصب الديني واختلاف العقائد أعمى عيوننا وترك عليها غشاوة حتى أننا نقرأ ثمانية وتسون كتابامن مائةفلا نجد فيها اشارةلفضل العرب ومأسدوه الينا من علم ومعرفة اأيها الكلب السفيه لماذا تنقص من حروفلكي تقص ما اكتب

  • عبد الوهاب لعرابي

    بارك الله فيك لقد انرت علينا بهدا الموضوع وعلى حسب فهم فمقالاتك تبين ان التقدم ليس حكر على البعض فكثيرا من العلماءهم من الضفة الاخرى لكن ما قاموا به ابهر العالم سيدي علينا باحترامي انفسنا و تبجيل الغير والتحلي بالصبر والقدوم الى الامام واعطاء الفرص لكل من له القدرة على التفوق وادخال فكرة المنافسة للادهان واضفاء الشفافية لقد اثبتت التجارب ان المواد الخامة متواجدة في كل انحاء المعمورة وااشياء الناقصة هي عدم ابراز مفاهيم تحرير الفكر والوصول بها الى الدفع ورفع مستوى الهمم وابراز مكانة العلم والعلماء

  • ياسين

    شكرا، فقط شكرا جزيلا.

  • عبيد الله

    أعتذر على اللجوء إلى استعمال هذا اللفظ الإيطالي الذي لم أجد فيما أعرفه مماثلا له بالعربية.
    علّمنا حكماء الإنسانية الإغريق ونعم المعلِّمون أن العلم سياسة وأن أية فلسفة (أو علم) هدفها تحسين تسيير وتنظيم الدولة والمجتمع وإسعاد الإنسان في نهاية المطاف. العلم لم يكن له أي مفعول في المجتمع الإسلامي ولم يساهم يوما في التأثير على الفكر السياسي وحياة العرب والمسلمين التي ظلَت دائما منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا مجالاً حصريا للخرافة الدينية التي يسهل تطويعها لمصالح الحاكم وعشيرته.

  • عبيد الله

    مع احترامي لمن عرّفني بهذا العالم الجليل الذي لم أسمع عنه من قبل، أصرّ على أن السيّد سزكين ابن العلم الألماني والمجتمع الألماني ولا علاقة له بالعروبة والإسلام. نفس الشيء يمكن قوله عن الباكستاني الأصل محمد عبد السلام الذي هو ابن الحضارة والثقافة البريطانية فقد تعلّم في المملكة المتحدة وحمل جنسيتها وعاش فيها وتوفي ودُفِن فيها وكان متزوجا بريطانية.
    العرب والمسلمون ليسوا أهل علم مثلما يسعى أبو بكر خالد سعد الله دائما إلى إقناعنا. العلم في المجتمع العربي الإسلامي لم يكن يوما غير Dilettantisme والعلماء لم يكونوا سوى مجرد Dilettantes و كون بعض الخلفاءو الأمراء Dilettantes لا يغير في الأمر شيئا.

  • Ahmed

    رجل قام بعمل اكبر من عمل دولة كالجزائر, عندما يكون الناس ميسوري الحال يتفرغون للعلم ,وعندنا أولاد المسؤولين الميسوري الحال يتحولون الى رجال اعمال أي سراق يتاجرون في الكوكايين,

  • محمد المباني

    السلام عليكم،
    بوركت يا استاذ على مقالاتك الرائعة...وددنا لو تكتب لنا مقال حول الأستاذ أحمد جبار -أطال الله عمره- والأستاذ المرحوم محمد بقادة والأستاذ يوسف عتيق -أطال الله في عمره-...

  • الصديق

    كيف لنا أن نشجع العلماء و تبقى كرة الجلدالمنفوخ دون نصير، هذا ليس من شيم دول العالم الثالث.