رسائل الخارج قويّة… فما هو المطلوب داخليًّا؟
لم تمض سوى ساعات معدودات من إعلان “السلطة المستقلة لتنظيم الانتخابات” عن النتائج المؤقتة لرئاسيات 2024، مطلع الأسبوع الماضي، حتى تهاطلت تهاني رؤساء الدول والملوك والأمراء على الجزائر بنجاح الاستحقاق السياسي، وعلى رأسهم القوى الكبرى في الغرب والشرق والعواصم العربية الثقيلة.
من يقرأ مضامين تلك التهاني الموجهة للرئيس عبد المجيد تبون على نيل الثقة الشعبية مجددا، سيدرك أنها تتجاوز الأعراف البروتوكولية في مثل هذه المناسبات، إلى رغبة قوية في الحفاظ على علاقات تعاون قائمة أو عالقة بالنسبة للبعض، وفتح آفاق شراكة متجددة مع الجزائر.
ظهر ذلك جليًّا رغم الاضطراب الواقع في نتائج “السلطة المستقلة”، حيث لم تنتظر واشنطن وموسكو وطوكيو وباريس وإسطنبول، ولا الرياض وأبو ظبي مثلاً، قرار المحكمة الدستورية، لتستبق الموقف بالتهنئة الخاصة والاتصالات الدبلوماسيّة مع الرئيس الفائز مباشرة، للتعبير عن إرادتها الجامحة في تكريس الشراكة المتعددة الأبعاد مع الجزائر.
ليس الغرض من هذه الإشارة الإحالة على تزكية هؤلاء لواقع الديمقراطية في الجزائر، ولا رضاهم على الانتخابات الرئاسيّة، لأننّا نعرف وحدنا نقائصنا الكثيرة ونملك القدرة على تقييمها وتقويمها، كما قال رئيس مجلس الأمة صالح قوجيل، في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية.
كما أن الخارج لم يكن يومًا داعمًا للانتقال الديمقراطي في أي بلد، بل باحثًا دومًا عن مصالحه الحيوية في الأقاليم الأخرى، وبذلك فهو مستعد للتحالف مع أي سلطة تخدمها، بغض النظر عن مدى شرعيتها الشعبية، طالما ظلت تمسك بزمام الأمور في البلاد.
وعليه، فإننا لا نستجدي صكوك حسن السيرة للديمقراطية الجزائرية من وراء البحر، بل نعمل بأنفسنا على تأسيسها وترقيتها واستدراك أخطائها تدريجيًّا، مثلما نؤمن أنها محصّلة تراكم تاريخي وإرادة سياسيّة وثقافة جمعيّة وبيئة اجتماعيّة ومناخ إقليمي ودولي، تتمرّن عليها الأنظمة والشعوب على السواء.
إنما نريد لفت النظر إلى مسألة أخرى في غاية الأهميّة، وهي تلك المكانة البارزة التي تحوزها الجزائر في عيون الأجانب، باعتبارها دولة إقليمية كبرى في المنطقة، تملك كل مؤهلات الريادة الإفريقيّة والعربيّة، لاعتبارات تاريخيّة ومادية وطبيعية وجغرافية وبشريّة، وهي مقومات موضوعية بعيدا عن كل نزعة شوفينيّة.
عندما تتهافت عواصم العالم الكبرى، الغربيّة منها والعربيّة، للتعبير في هكذا استحقاقات على إرادتها لأجل توطيد علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسيّة مع الجزائر، فإن الموقف لا يعكس فقط ثقة هؤلاء في استقرار النظام السياسي وقدرته على إدارة الأوضاع العامّة في ظروف ما، بل إنها تعكس تقديرات استشرافيّة لأهمية البلد وأدواره المرتقبة في الإقليم والساحة الدوليّة.
نحن نعني للآخرين الماضي الثوري والحاضر الحيوي والمستقبل الواعد، لما نملكه من خزان حضاري وروحي زاخر، يدفع بنا دائمًا للخروج من الأزمات المستعصية، مثلما نحوز على إمكانات طبيعيّة هائلة وموارد بشريّة نوعيّة، تجعلنا في طليعة المؤهلين لصناعة النهضة التنمويّة المنشودة.
الكثير من البوادر إيجابيّة حاليًّا في الجزائر، لنحقق ما نصبو إليه، في المدييْن القريب والمتوسط، من دخول نادي الاقتصاديّات الصاعدة، خاصة ما تعلّق بتحريك القطاعات النائمة والسياسة السياديّة المرتكزة على تحفيز الإنتاج المحلّي والتحرر التدريجي من التبعية للواردات، لضمان الأمن الغذائي ورفع الصادرات خارج المحروقات، زيادة على التحسّن الكبير للمؤشرات الكلية للاقتصاد (الدخل الإجمالي الوطني والفردي واحتياطي الصرف وغياب المديونيّة الخارجية ومستوى الميزان التجاري…).
هذا يعني أنّ الجزائر تنطلق نحو هدفها من مسافة متقدمة نسبيًّا، وتملك كافة الموارد اللازمة لتجسيد طموحها التنموي والاقتصادي، ولعلها أمام فرصة حاسمة لاستدراك ما فاتها خلال عقود، قياسًا بمقوماتها الاستثنائية لولا ظروف كثيرة متداخلة.
لذلك ستكون مهمة الرئيس تبون تاريخية، خلال العهدة الثانية، للانطلاق سريعًا بالجزائر على السكة الصحيحة، وقد تمكن في الخماسية الأولى من إرساء قواعد الانتقال الاقتصادي والإصلاح الإداري لجهاز الدولة، لكننا نتطلع الآن إلى تكريس أكبر لمنظومة “الحكم الراشد” بكل معاييرها الدوليّة، لأنها السبيل الوحيدة للاستفادة من الإمكانات المتاحة في كافة المجالات، ومن دونها لا يمكن أن نحلم بالتقدم مهما امتلكنا من أسبابه الماديّة، لأنّها ستضيع هباء منثورا في قبضة الفساد والبيروقراطية وسوء التدبير والعجز عن الابتكار.
ستكون مأموريّة الرئيس تبون تعزيز نظام الحوكمة السياسيّة، بتجذير الممارسة الديمقراطية والاحتكام نهائيًّا للإرادة الشعبية وحدها، بعيدا عن أي وصاية أو شرعية مهما كانت خلفيتها، وما يستوجبه ذلك من مراجعات للمنظومة التشريعية ذات الصلة وانفتاح أوسع للفضاء العام في إطار قوانين الجمهورية، خاصة ترقية أدوار الإعلام الوطني، وحيازة برلمان تمثيلي ورقابي وتشريعي في مستوى رهانات المرحلة.
ويرافق ذلك تعزيز استقلالية القضاء، لأنها التجسيد الفعلي لدولة القانون التي تمثل في العالم المعاصر عنوان الأنظمة الديمقراطية، وهي الكفيلة باستكمال الحرب على الفساد وحماية المال العام والسهر الصارم على التزام تطبيق القوانين من كل الأجهزة التنفيذية.
إن فرض الشفافيّة المطلقة في تسيير الشأن العام، مع اعتماد منطق الحساب والجزاء على ممارسة المسؤولية، سيكفل حتمًا صيانة حقوق الجماعة الوطنية ويضمن تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين والمتعاملين، ما من شأنه تحرير المبادرات الفردية والاقتصادية وتفعيل حركة الاستثمار، على قاعدة النجاح للأصلح، وقد برهن الرئيس تبون على إرادته القوية في الذهاب بعيدا بمشروع الرقمنة في هذا المنحى، ولا يزال الجزائريون يتطلعون إلى المزيد خلال العهدة الجديدة، للقضاء نهائيًّا على ما بقي من سلوكيات بالية في أعراف الدول الحديثة.
عودٌ على بدء، نقول إنّنا نثق في أنفسنا، أكثر مما يثق في قدراتنا الآخرون من الخارج، وندرك تماما أنّ كل الطرق مفتوحة أمام بلادنا لتكون في أفضل أحوالها، وما علينا سوى التعبئة الوطنية والتوافق السياسي بشأن مكامن الخلل والتعاون على تنفيذ خارطة الطريق للعبور معًا وبسلام نحو الانتقال الإجباري.