رسائل الداخل والخارج في الرئاسيات المسبقة
عندما نريد قراءة قرار الرئيس عبد المجيد تبون بتعجيل الاستحقاق الرئاسي عن آجاله القانونية بأكثر من 3 أشهر، فينبغي العودة قليلا إلى مواعيد 2019 و2014 وحتى 2009، ليكون القياس من مفاتيح التثمين الموضوعي للحدث المفاجئ عند الكثيرين.
لا خلاف على أن رئيس الجمهورية تصرّف ضمن النطاق الدستوري، وفق ما يمنحه القانون الأسمى من سلطات عليا، إذ تتيح المادة 91 في بندها الحادي عشر للرئيس إمكانية الذهاب إلى انتخابات رئاسية، من دون أن تترتّب عليه أي شروط مقيدة.
وعليه، فإنّ كل نقاش لاحق بخصوص قرار رئاسيات 7 سبتمبر المقبل يأخذ طابعًا سياسيّا وتقنيّا خارج الجدل الدستوري، وهذا مكسبٌ مهم للغاية في تطور الممارسة المؤسساتية للسلطة التنفيذية في بلادنا، على خلاف محطات سابقة برزت فيها إشكالات الانتهاك القانوني.
نتذكر كيف قرر النظام السياسي قبل 15 عامًا التمديد للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، رحمه الله، عن طريق اللجوء إلى تعديل دستوري تحت الإكراه البرلماني والحزبي، لأجل فتح العهدات الرئاسية مجددا، بعدما تم تقييدها بعهدتين في دستور الرئيس ليامين زروال (نوفمبر 1996)، وهو ما شكّل بداية الانحراف الذي جنى على الجزائر انتكاسة ديمقراطية، بقطع الطريق على التداول السلمي على السلطة، ولو في حدّه الأدنى شكليّا.
لم يختلف الموقف كثيرا بعد 5 سنوات عام 2014، إذ عاشت الجزائر منافسة انتخابية بطلها رئيس متوّج على كرسيّ متحرك، في ظل تجاهل كامل لشروط الأهلية البدنيّة والعقلية وموانع العجز عن ممارسة الحكم، ما سيؤدي إلزاميًّا إلى ظهور “قوى غير دستورية” تسطو على مقاليد القرار السلطوي، عن طريق القرابة والجهوية والنفوذ المالي، مشكِّلة “عصابة” ترتهن البلد بكل مقدراته وأحلام أبنائه.
وحينما حاولت الشلّة الفاسدة إعادة الكرّة لتمرير عهدة خامسة، احتارت في المخارج الممكنة أمام الرأي العامّ، لأنّ رئيسها الصوريّ مغيب عن الواقع، إذ صار استمراره في الحكم عبر الانتخابات فضيحة دستورية وخروجه غير وارد عندهم، فجسّوا نبض الشارع بفكرة التمديد التي اصطدمت بالرفض المطلق، ثم العدول عنها بالإصرار على ترتيب استحقاق شكلي، قبل أن يباغتهم الحراك المبارك في شتاء 2019، والذي انتهى برئاسيات 12 ديسمبر، بعد تلك المؤجلة من 04 جويلية تحت معارضة القوى الشعبية والسياسيّة.
قد يقول قارئ: لمَ هذا السرد الزمني للمواعيد الرئاسية منذ 2009؟ والجواب بسيط، إذ أنّ المقارنة تُجلي كثيرا من رسائل قرار 2024 بتعجيل المحطة الرئاسيّة، بغضِّ النظر عن الإخراج الإعلامي القابل للملاحظة والنقد والتقويم.
إنّ مما يجب الوقوفُ عليه اليوم، والإقرار به، هو أن مؤسسات الدولة، على خلاف ما جرى من تجاوزات صارخة في العهد السابق، التزمت القواعد الدستوريّة وتتصرّف في إطار القانون، بدليل أن لا أحد يعقّب دستوريًّا على الإعلان الانتخابي، وهذه أول خطوة في التأسيس للإصلاح السياسي.
كما أنّ توجّه رئيس الجمهوريّة نحو تقديم الانتخابات، عوض تأخيرها أو التفكير في البقاء من دونها تحت أي مبرّر أو شكل، هو في حد ذاته مؤشرٌ رئيسي لاستقرار الدولة والتحكّم في الوضع العامّ، حيث تُضبط مسارات الاستحقاقات الكبرى في مناخ من الهدوء والانضباط، ومن دون إثارة ردود أفعال مضادة من أي جهة سياسية داخليّة.
ما أقدم عليه الرئيس تبّون هو إعادة الكلمة للشعب الجزائري ليكون وحده الحكم الفيصل، بشأن ما تحقّق من مكاسب ومنجزات، مثلما علّقت به وكالة الأنباء الجزائرية، وهذا هو الأصل في الحياة الديمقراطية، مع التأكيد على ضمان كل شروط المنافسة النزيهة بين المتسابقين وتحييد الوسائل العموميّة.
إذا كان رئيس الجمهورية ينوي التقدم لعهدة ثانية، والتقديرات التي بحوزة مصالحه تفيد بأهمية تسبيق الانتخابات عن موعدها، ليكون التوقيت في صالحه، فهذا من حقوقه المكفولة دستوريًّا وسياسيّا وعُرفيًّا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفتح بها البعض بابًا للتأويل أو التشكيك، بل إنّ الرئيس يكرّس بهذا السلوك القانوني الاحتكام إلى الإرادة الشعبية في إضفاء الشرعيّة على السلطة أو تجريدها منها وفق تقييمها الخاصّ.
وفي جانب آخر، إذا ارتبط قرارُ تسبيق رئاسيات 2019 برهانات إقليميّة وظروف دولية لها آثارها على بلادنا ومصالحها الحيوية الخارجيّة، فإنّ ذلك سيكون من دواعي التفاف جميع الجزائريين؛ مؤسسات رسميّة وتشكيلات حزبية وشخصيات ومواطنين، وتجندّهم بكل مسؤولية لضمان استحقاق رئاسي في أحسن الظروف، من نواحي التنظيم والأمن والشفافيّة، بما يعكس صورة الجزائر الجديدة أمام العالم.
إنّ أخْذ صاحب القرار السياسي بعين الاعتبار للتحديات الإقليميّة والأحداث الدوليّة في ضبط الأجندة الانتخابية الرئاسيّة يؤكد مرّة أخرى أن بلادنا ليست دولة صغيرة منطوية عن نفسها أو معزولة عن محيطها، بل هي قوة مركزية في المنطقة العربيّة والإفريقية والمتوسطيّة، لها مواقفها الدبلوماسيّة ومصالحها القوميّة وحساباتها الجيوسياسيّة وطموحاتها الجغرافيّة، مثلما تواجهها المخاطرُ الخارجيّة ومخططات الأعداء.
لذلك آثرت سلطة القرار، بحكمة واستشراف، الاستعداد الاستباقي لكل الطوارئ الإقليمية، من خلال استعجال ترتيب شؤون الرئاسة، بصفتها أعلى سلطة في البلاد، حتى تزيد من الالتحام الشعبي مع كافة مؤسسات الدولة السياديّة، وفي مقدِّمتها رئيس الجمهورية والجيش، تقويةً لتماسك الجبهة الداخليّة ضد كل التهديدات المحتملة.