-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رسالة إلى وزيريْ التربية والتعليم العالي

رسالة إلى وزيريْ التربية والتعليم العالي

قبل سنوات رفع أكاديميون جزائريون مرموقون صوتهم عاليًا بضرورة التأسيس لتعليم نخبوي موجَّه إلى صفوة التلاميذ من المرحلة الثانوية إلى التكوين الجامعي، حتى لا يكون مبدأ ديمقراطية التعليم ومجانيتُه خيارا قاتلا للمواهب وسط العدد الهائل من التلاميذ والطلاب في ظل أوضاع تعليمية شائكة.

الفكرة لقيت آذانا صاغية لدى السلطات العمومية بإطلاق “ثانوية الرياضيات الوطنية”، ثم مدرسة جامعيّة عليا للرياضيات لحاملي البكالوريا، مع أخرى نظيرة لها في ميدان الذكاء الاصطناعي، لتأتي لاحقا مجموعة أخرى من المدارس الوطنية العليا، على غرار تخصُّصات الإعلام الآلي والأمن السيبراني والأنظمة المستقلة.

ومهما كانت نقائص البدايات التجريبيّة فلا نملك إلا الإشادة بالقرار الرشيد والشدّ على أيدي المسؤولين لاستكمال المشروع حتى يصل إلى الغاية المنشودة، بتوفير الرعاية التربوية والاجتماعية لتلك الفئة من النوابغ، والتي تستحق عناية خاصة من الدولة، في إطار الاستجابة لحاجات التنمية الوطنية، ولا تناقض في ذلك مع مبدأ المساواة بين المواطنين.

وتوسعةً لمسار التعليم النخبوي، كشف وزير التربية الوطنية، محمد الصغير سعداوي، أخيرا، عن فتح خمس ثانويات جهوية متخصصة في الرياضيات، وهو بلا شك مكسب جدّ حيوي للمدرسة الجزائرية، لكن ربّما يُعاب على رؤية السلطات تلك الانتقائية تجاه أهميّة المعرفة، إذ ميّزت عمليًّا بين العلوم الدقيقة والتكنولوجية ومثيلتها في حقل الآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية، بل إنّ تلك النظرة الدونيّة تردّدت للأسف، قبل 2019، على لسان مسؤولين رسميّين أظهروا استخفافا واضحا بها، مدّعين أن العصرَ هو عصرُ الرياضيات والفيزياء والكيمياء ومشتقاتها.

إنّ إقصاء المعرفة الاجتماعية نجم في عهد سابق عن عقدة صنّاع القرار الذين رأوا أنفسهم أهلا، وبلا منازع، للتفكير والتخطيط وبلورة كل السياسات، من دون حاجة إلى العقل الفكري للمجتمع، فكانت حساسيتُهم مفرطة تجاه الحسّ النقدي بكل صوره السياسيّة والفلسفيّة والثقافية والأدبيّة.

لكن ما نتمنّاه اليوم هو أن يكون الأمر مجرّد ترتيب أولويات وليس غفلة عن أهمية تشييد أقطاب عليا خاصة بتلك الحقول الاجتماعية، لتكتمل الإرادة الحكيمة في رعاية المواهب الإبداعية.

لذا صار مطلوبًا بصفة مستعجلة التحضير لإنشاء مؤسَّسات تعليمية وجامعية وطنية متخصِّصة، لاحتواء نجباء العلوم الشرعيّة والآداب والاجتماع في الطور الثانوي، ثم مرافقتهم جامعيّا من خلال “معهد عال لعلوم الشريعة” وآخر للعلوم الاجتماعية بكل فروعها.

لا يمكن التطلع إلى صناعة نخبةٍ دينيّة ودعويّة مؤهَّلة للاجتهاد العقلي والنظر الشرعي في النصوص والأحكام والتراث ومستجدات العصر، ناهيك عن مواجهة الغزو الثقافي للمرجعية، بالتعويل على مخرجات تقليدية للمدرسة وإقحامها لاحقا في دراسة الشريعة بالمرحلة الجامعية.

بل يقتضي التخطيط السديد فتْح ثانوية وطنية على الأقل، لاستقبال المؤهَّلين من تلاميذ الطور الإكمالي الراغبين في التخصّص، وفق شروط علمية صارمة، تختصر عليهم الزمن في تحصيل المعارف، بتمكّنهم المسبق، وبالحدّ المعتبر، من القرآن والحديث والنحو والفقه وباقي أساسيات العلوم الشرعية، حتى تكون مرحلة التكوين العالي موجّهة إلى بناء العقل الاجتهادي وتنمية الحسّ النقدي، عوض استهلاكها في الحفظ واجترار النصوص القديمة.

نظنّ أن جامع الجزائر يضمن حاليًّا، بما يتوفر عليه من هياكل علميّة، تجسيد الفكرة المقترحة، وقد بدأها بطور دراسات ما بعد التدرُّج (الدكتوراه)، غير أنَّ الحاجة تبقى ملحّة إلى إنشاء معهد عال للشريعة ضمن مؤسسات الجامع يضمن كل مراكز التكوين الجامعي، بالتوازي مع فتح ثانويةٍ متخصصة للتأهيل التعليمي القاعدي، بعد ما ألغت الحكومة تلك الشعبة من التعليم الثانوي بعنوان “الإصلاحات” المزعومة.

من جهة أخرى، ينبغي تأسيس “ثانوية وطنية للآداب”، إذ لا فرق بين نوابغ التعليم العامّ، كما أن مقتضيات التنمية وترقية البحث العلمي تستوجب رعاية متفوّقي الفروع الاجتماعية والإنسانية بالجامعة في مرحلة تمهيديّة مبكّرة، بتلقّيهم معارف ومناهج إضافيّة مكثّفة على قدر تميُّزهم الدراسي.

وعند ولوجهم الجامعة سيكون من حقهم الحظوة بمدرسة عليا وطنيّة تتيح لهم مواصلة المشوار الخاصّ، لاسيما إزاء الضعف الجزائري والعربي عموما في التأسيس لمناهج ومضامين علوم اجتماعية تعبِّر عن البيئة الحضارية والثقافية والتاريخية لمجتمعاتنا، إذ أنّ ما ندرسه في الأصل ليس سوى منتج غربي مع تكييفات محدودة.

من الممكن أن تكون المدرسة قطبا جامعًا لعدّة فروع في صورة أقسام متخصصة، مثل علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والآداب مثلا، باعتبارها حقولا معرفيّة رئيسة، لا نزال متخلّفين في مضمارها، مقابل امتلاكنا كفاءات طلابية كثيرة لا تجد فرصتها للإبداع في دوامة الحياة الجامعية الكلاسيكيّة.

إن ما نطرحه في هذه المساحة ليس أمرا مستحيلا ولا فكرة خارقة، بل هو الأصل لدى كل الأمم المتقدِّمة في رعاية قُدراتها البشريّة وهندسة مستقبلها التنموي والحضاري.

سيكون من الخطأ المبدِّد للجهود والأوقات، على أهميتها في مسار الدول، الاعتقاد أنّ النهضة تصنعها العلوم الدقيقة وحدها، بل تحقّقها المعرفة الشاملة والمتكاملة، وفي مراحل من تخلّف الشعوب قد تكون أولوية العلوم الاجتماعية أكثر خطورة، إذ ترتبط أزمتها بالثقافة والهوية والوعي بالذات والاستلاب.

إذا كانت العلوم التكنولوجية طريق الصناعات والاختراعات، فإنّ المعرفة الدينية والاجتماعية هي المحضن الأول لصناعة الإنسان ذاته وعيًا وخُلقًا وعقلاً وسلوكًا، وضمان الأمن الديني والفكري والثقافي للأوطان، بصفته من أوجه المفهوم الشامل للأمن القومي في عصر العولمة ونسف الحدود الهوياتيّة.

لقد أبان رئيس الجمهوريّة، عبد المجيد تبون، عن اهتمامه بترقية التعليم، حتى صار ضمن المحاور الرئيسة لعمل السلطة التنفيذية، لذا نأمل منه شخصيّا تبنّي هذه المقترحات، وتكليف المختصِّين في قطاعي التربية والتعليم العالي بإنضاجها للتجسيد قريبًا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!