رمضان يفترض أن يقوّي فينا الوازع ويحيي الضّمائر
رمضان شهرٌ شرع فيه الصيام والقيام وزيادة الإقبال على القرآن، وحُثّ فيه على غضّ البصر وحفظ اللسان، حتّى يتطلّع العبد المؤمن ليكون من عباد الله المتّقين الذين يخشون ربّهم بالغيب ويستشعرون نظره إليهم واطّلاعه على أحوالهم وأعمالهم وما تكنّه صدورهم، وحتّى يتذكّر داره الباقية التي ينبغي له أن يجعلها نصب عينيه حتّى لا ينساها ويخسرها ويُحرم دخولها بغفلته، تقول أمّ البنين، أخت عمر بن عبد العزيز -رحمهما الله-: “البخيل حقًّا من بخل عن نفسه بالجنّة”.
العلاقة بين رمضان والجنّة علاقة وطيدة؛ فصيام رمضان شرع لتحصيل التقوى كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، والجنّة هي دار المتّقين، كمال قال المولى سبحانه: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾.. أحد أبواب الجنّة يسمى الريان، لا يدخل منه إلا الصّائمون.. في أول ليلة من ليالي رمضان تفتح أبواب الجنّة وتغلّق أبواب النّار، ليتنسّم العبد نسائم الجنّة وهو يحثّ الخطى على طريق التوبة والصّلاح ويتزوّد من الأعمال الصّالحة، ويجد في أيام وليالي رمضان شيئا يسيرا من أنس الجنّة وراحتها في قلبه، فتتوق نفسه إلى دار الخلود حيث الرّاحة الكاملة والسّعادة التي لا تنقطع ولا يشوبها كدر.
الجنّة سلعة الله وسلعة الله غالية، تحتاج إلى صبر ومجاهدة، وزجر للنّفس عن هواها وكفّ لها عن شهواتها.. النفس بطبعها عجولة لحوحة تحبّ الحظوظ العاجلة وتسارع إلى الشهوات الآنية الفانية التي تعقبها النّدامات الحسرات، والعبد العاقل يكفّ نفسه ويأخذ بلجامها ويخالفها، ويجاهدها حتّى تستقيم على طاعة الله ويكون هواها تبعا لما يرضي الله، يقول مولانا سبحانه: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.. ولعلّ من أكثر ما يعين العبد المؤمن على نفسه الأمّارة بالسّوء، استشعارَه رقابة مولاه في كلّ حين وكلّ مكان، وحياءَه من اطّلاع مولاه عليه وهو يعصيه أو يتثاقل في طاعته.. ورمضان يربّي في الصّائم هذا الشّعور، ويقرع قلبه ووجدانه بقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾.. فالصّائم ربّما يخلو بنفسه في غرفته أو سيارته أو في مكان خال، وهو يعاني الجوع ويكابد العطش، وربّما يرى أمامه أصناف الطّعام ويرى العصائر والماء البارد، لكنّه لا يجرؤ على مدّ يده إلى شيء منها، لماذا؟ لأنّه يعلم أنّ الله يراه ومطلّع عليه.. ووالله لو استثمر العبد المؤمن هذا الشّعور في حياته كلّها لاستقام على طاعة الله وكان عبدا تقيا.. فالعبد الذي يترك الحلال من الطّعام والشّراب وهو جائع عطشان في أيام رمضان، خوفا من الله الذي يراه، يفترض فيه أن يترك أكل الحرام في سائر الأيام لأنّ الله يراه.
ليس يصحّ أن يتحرّز العبد من قطرات الوضوء في نهار رمضان، ويتحرّز من العطور النفاثة ومن قطرات العين، وهو الذي يصرّ على أكل حقّ أخواته وأبناء عمومته من الميراث، ويصرّ على المماطلة في سداد ديونه، ويصرّ على الاستئثار بالممتلكات العامّة، ويسرق الماء والكهرباء ويتحايل على العدادات.. ليس يليق بالعبد المؤمن أن يصوم 14 ساعة من نهار رمضان، ثمّ إذا أذّن مؤذّن المغرب بدأ ليلة رمضان بسيجارة محرّمة.. ليس يليق بالعبد المؤمن أن يصوم عن الحلال وهو الذي يأكل الحرام في تجارته فيطفّف في الميزان ويظهر السّلعة الجيّدة ويزن من الرّديئة ويحلف كاذبا ويزن الخضر مع التراب والحشائش ويستأثر بالرصيف والشّارع العامّ ويقطع على النّاس طريقهم.. ليس يليق بالعبد المؤمن أن يصوم عن الحلال وهو الذي يأكل الحرام في مكان عمله فيسرق من ساعات العمل ويتهرّب من أداء واجبه بحجّة أنّه صائم ولم ينم باللّيل.. ليس يصحّ أن يصوم العبد المؤمن عن الطّعام والشّراب، ويسلّط لسانه على إخوانه المسلمين غيبة وانتقاصا وبهتانا، ويطلق العنان لبصره بالنظر إلى النّساء في الشّوارع وعلى شاشة التلفاز أو الهاتف.. ليس يصحّ للعبد المؤمن أن ينام في رمضان عن صلاة العصر ثمّ يتحمّس لصلاة التراويح.. ليس يصحّ للمرأة المسلمة أن تمتنع عن الطّعام والشّراب والزّينة في نهار رمضان، ثمّ إذا بها بعد المغرب تخرج إلى السّوق أو حتّى إلى التراويح متزيّنة متعطّرة.. وليس يصحّ للعبد المؤمن أن يظلّ صائما نائما، ثمّ إذا حلّ اللّيل أحياه بالجلوس في المقهى حول طاولة الدومينو والورق.. فحرمة ليل رمضان مثل حرمة نهاره.