-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

زلزال في فرنسا

بشير مصيطفى
  • 1018
  • 2
زلزال في فرنسا

لم يكن زلزال السترات الصفراء الذي ضرب باريس ومدناً فرنسية أخرى السبت الماضي، ليخلو من ارتدادات ليس أخفّها امتناع المتظاهرين عن ملاقاة السلطات في قصر الإليزي لمناقشة المطالب التي ظلت مرفوعة فوق قصر النصر. ومما زاد من إصرار الحركة الاحتجاجية التي لا تعرف لها قيادة إلى حد الساعة التصريحات الأخيرة لواضعي السياسات في فرنسا بشأن الزيادات في رسوم الطاقة وتجميد أيِّ زيادة في أجور العمال. تصريحاتٌ يرى فيها المتابعون إشاراتٍ لمستقبل غامض يتربص بالفرنسيين قد يزيد من عمق الشرخ الحاصل بين قمة الحكم في باريس والقاعدة الشعبية من متوسطي الدخل في باقي المدن التي مازالت تئنُّ تحت وقع البطالة وغلاء المعيشة وانهيار القدرة الشرائية.

مؤشراتٌ مقلقة

وبالفعل، وعلى الرغم من المستوى المعقول للتضخم عند عتبة 2.2 بالمائة، إلا أن المستوى العالي للأسعار عند الاستهلاك بفرنسا لم يعد يتيح للتضخم فرصة للصعود مجددا لأنه لا يقيس لنا سوى الزيادة السنوية في أسعار السلع والخدمات بل صار يخفي قدرة ضعيفة للشراء لذوي الدخل المتوسط والمنخفض وهم الطبقة العاملة التي يقدر حجمها بـ29 مليون نسمة، فضلا عن العاطلين عن العمل وعددهم يزيد قليلا عن 3.5 ملايين شخص. رقم يرفع نسبة البطالة الى مستوى قياسي عند سقف 11 بالمائة مقارنة بألمانيا مثلا حيث لا تتعدى نسبة البطالة عتبة الـ4 بالمائة.
وإلى جانب القدرة الشرائية للفرنسيين التي لم تعد تتحمل القرارات الجبائية للحكومة، تعاني فرنسا من ظاهرتين مقلقتين اثنتين: الأولى تخص الهجرة نحو المدن لتشكيل حزام جديد من السكان المهمَّشين في الضواحي ووسط المهاجرين، والظاهرة الثانية تخصُّ امتداد ظاهرة الفقر وسط المدن الكبرى نفسها. وتبلغ نسبة الفقر في فرنسا رقما مقلقا عند 13.6 بالمائة من إجمالي السكان البالغ 67 مليون نسمة تقابله نسبة ضعيفة جدا من النمو السنوي عند عتبة 1.6 بالمائة ومديونية داخلية قدرها 2.1 ترليون يورو أو ما يقارب حجم الاقتصاد برمته.

خريف الغضب

حقيقة لا يعيش الاقتصادُ الفرنسي ربيع أيامه على الاطلاق بل خريف غضب قد يستمر أسابيع أخرى، ولا تملك الحكومة الفرنسية هامش مناورة واسعا في تصميم السياسات المالية المُناسبة خارج دائرة الجباية بما فيها الرسوم على الطاقة والغازات الملوِّثة للبيئة، وهي في نفس الوقت مجبرة على تنفيذ ما تعهَّد به الرئيس إيمانويل ماكرون في حملته الانتخابية قبل عامين من تحسين للمعيشة وخفض للضرائب وترسيخ للعدالة الاجتماعية.. وهو ما يمنح المناوئين لجبهة الرئيس من أتباع اليمين المتطرف واليسار فرصة تاريخية أخرى للإطاحة بمن ربح انتخابات دون قاعدة حزبية معروفة.
وتعاني فرنسا ماكرون من بطالة حملة الشهادات عند مستوى 20 بالمائة، وهي تزيد عن متوسط البطالة بتسع نقاط مئوية وهذا كثير لأنه يكرس لاتوازن سوق العمل بين المهن البسيطة والوظائف النوعية. وبالفعل يعزف أصحاب الشهادات عن المهن المتوسطة والبسيطة ويرغب العاطلون عن العمل من ذوي المستوى المحدود في مستوى للأجور يكون أعلى من المستوى الحالي، ما يفسِّر لنا حاجة فرنسا إلى العمالة المهاجِرة والموسمية في مفارقة بين مؤشرات الاقتصاد الكلي والواقع الاقتصادي. هذه المفارقة هي ما زاد في مأساة السكان في المناطق المهمَّشة ضواحي المدن الكبرى ومأساة الفقراء وسط هذه المدن ذاتها.

دروسٌ مستفادة

أبانت ثورة حمَلة “السترات الصفراء” خلال الأسابيع الثلاثة السابقة عن أزمة في النظام السياسي الفرنسي لم تكن معروفة من قبل سرعان ما لاحت مؤشراتها في النظام الاقتصادي للدولة وتذكرنا بالوضع الذي شهدته فرنسا عشية الثورة الفرنسية، ويعني ذلك ابتعاد تفكير الحاكم عن مجريات حياة المحكوم لاسيما الغلبة الغالبة من المحكومين من العمال البسطاء وأصحاب الوظائف المتوسطة والفقراء. وعلى الصعيد الاقتصادي تمددت الطبقة البرجوازية أكثر فأكثر وزادت نفقات الدولة الإدارية ولم تعد السياسة الاجتماعية تستجيب لمتطلبات الضمان وحقوق التقاعد وسط تمدد فئة العجزة الذين في حاجة إلى مساعدات.
وفي كل الأحوال، لا مفر في فرنسا من إعادة توجيه السياستين الاجتماعية والاقتصادية حسب معيارية إعادة توزيع الدخل بين الفئات الهشة والطبقة الأكثر غنى بشكل تصاعدي، وربما تكون ضريبة الأغنياء (ضريبة بافيت) حلا مناسبا في الوقت الراهن مع زيادة الرواتب للمهن البسيطة والمتوسطة لاستقطاب ذوي المهارات وفي نفس الوقت ابتكار حلول أكثر جدوى لحفز التحصيل الضريبي كي تتحول الضريبة إلى مقابل للخدمة وليس عبئا في حد ذاته.
* لا مفر في فرنسا من إعادة توجيه السياستين الاجتماعية والاقتصادية حسب معيارية إعادة توزيع الدخل بين الفئات الهشة والطبقة الأكثر غنى بشكل تصاعدي، وربما تكون ضريبة الأغنياء (ضريبة بافيت) حلا مناسبا في الوقت الراهن مع زيادة الرواتب للمهن البسيطة والمتوسطة لاستقطاب ذوي المهارات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • مجيد/ باتنة

    معالي الوزير عليك بالتحدث عن بلادنا حيث تدهور القدرة الشرائية للمواطن وغلاء الاسعار وانخفاض الاجور ؟؟؟؟

  • عبد النور

    المشكل ليس فقط إقتصادي ، قضية الزيادات في سعر الوقود والضرائب هي القطرة التي أفاضت الكأس فقط، المتظاهرون بكل وضوح في الفيديوهات كانوا يطالبون بسقوط النظام. خصوصا لما يكون الرئيس مصرفي سابق كان يعمل لدى العائلة التي تحكم فرنسا منذ 220 عاما. ولم يتنخبه أحد سوى القلة بل إختير مسبقا وهيأت له الظروف للفوز.