سلطة المؤسسات لا مؤسسات السلطة

الرِّهان على استقرار المؤسسات الدستورية في بلادنا، هو حجر الزاوية في الإصلاحات التي أقدم عليها رئيس الجمهورية منذ انتخابه قبل نحو خمس سنوات إلى اليوم، ذلك أن استقرار المؤسسات الدستورية والحفاظ عليها ديمقراطيا وليس سلطويا، هو السبيل الأول لإنجاح كل الإصلاحات الأخرى، وهذا ما تم البدء به ومنها تعديل الدستور فيما يتعلق بعدد العهدات التي بقيت المنظومة السياسية ما قبل 2019، تتلاعب بها بحسب الأهواء والرغبات.
أصل الأزمة في كل الأنظمة، شرقا شمالا وجنوبا وعربيا وغربيا، هو الرغبة في التسلط والاستحواذ على السلطة وحب التملك، التي هي غريزة متأصلة في الإنسان: تملّك الفضاء من خلال التوسع، تملّك المكانة من خلال المناصب وطلبها وحب تملّك المال والرفاه والغنى، من خلال كل الطرق المؤدية إلى “روما”.
ولتنظيم هذه الشهوانية ولجمها وعقلنتها، ينبغي أن نؤسس لنظام المؤسسات لا نظام الأشخاص والأفراد وحتى الجماعات ولوبيهات الضغط.
الأمر ليس سهلا، لأن أي محاولة إصلاح لصالح الجميع، يقابلها رفض ورد فعل سلبي وأحيانا رافض وعدواني وإجرامي على أي تغيير يمس بمكانة ومنزلة النخب المتسلطة مالا وجاها ونفوذا، وليس من السهل بالنسبة لهذه النخب والقوى والعناصر المستفيدة من القديم أن تقبل طواعية دواعي الجديد، لهذا، عادة ما نرى فيها مثل هذه الحالات مقاومة شرسة تمثل “الثورة” أو “الثورة المضادة” أو المقاومة لهذا التغير أو ذاك.
تأسيس لنظام المؤسسات، ينطلق من إجماع شعبي، لأنَّ رأي الشعب هو المفصل والحكم الفصل والضامن لعدم تغيير ما تم الاجماع عليه، وإلا فالأمر سيكون بمثابة انقلاب على الإرادة الشعبية.
الجزائر انطلقت بعد 2019 على هذا الأساس، على زخم حراك وطني رافض لحكم الزمرة والشلة التي سُمِّيت “العصابة”، فكان التغيير مطلبا شعبيا حتى وإن لم يذهب الجميع نحو خيار الحل الدستوري، لأن وجهات النظر من أجل الوصول إلى المبتغى، تختلف، حتى وإن كان الهدف واحدا. هذا دون أن ننكر وجود معارضة ومقاومة لهذه التغيير المنشود قبل تكريس هذا الاختيار واثناءه وبعده. هذا أمرٌ طبيعي أن تقاوم المجموعات والأفراد المستفيدين من ريع الفترة السابقة لقوانين وإجراءات تنافي مصالحهم وتهدد وجودهم السلطوي.
لقد تابعنا أزمة الرئاسة و”العهدة الخامسة” وكيف أن الزمرة المتسلطة خارج الدستور كانت تقاوم أي تغيير وتبقى على رئيس مريض غير قادر، على كرسي الرئاسة، فقط لكي تبقى هي من يحكم ومن يتصرف في المال العامّ وتُفسد الأرض والنسل.
المؤسسة الأمنية، ممثلة في الجيش الوطني الشعبي، كمؤسسة دستورية شعبية، وقفت مع الشعب وساندت مطلب التنحي، وكان بالإمكان ألا نصل إلى حد الضغط الشعبي لقرابة عشرة أشهر. لقد تم اختطاف الرئاسة والحكومة ومعظم المؤسسات من طرف عصبة من المتنفذين الجدد عبر المال الفاسد، وهذا لا يحدث في الديمقراطيات، ومنها الحالة الأمريكية مثلا كأقوى ديمقراطية، رغم كل ما يشوبها من نخبوية وعُصب كبرى مالية متحكمة في مصير السياسة الخارحية خاصة. إنما، الأطر التقليدية، والحزبية منها بشكل خاص، كان بإمكانها أن تضغط وتُقنع الرئيس بالتنحي لمصلة حزبه ولمصلحة أمريكا كما قيل له، مخافة أن يكون بقاؤه فرصة لعودة الخصم اللدود. لم يقبل التنازل، حتى ولو كان في أرذل العمر وفي مستوى ذهني وصحي متدني، لأن من طبيعة الأشياء حب التملُّك والبقاء ورفض الهزيمة والتنحي، قاوم لكنه رضخ في الأخير، من دون تسبب لا في حراك شعبي ولا شبه ثورة وفوضى داخلية على الأقل.