سلوك المستهلِك ومحكمات خلق الندرة

يعيش الإنسان مع حاجيات ومتطلبات يلبيها لذاته ويشبعها، منها ما هو معنوي وإشباعها يكون من المحيط الاجتماعي مثل الحاجة إلى التقدير والأمان واكتساب المعارف، وهذا ما يخلق ما يسمى بالمكانة الاجتماعية المعنوية أو الوزن الاجتماعي، وهنا في غالب هذا الطرح يغلب الجانب المعنوي في حاجيات البشر، وفي المقابل توجد حاجيات مادية يجد الإنسان نفسه بحاجة إليها مثل الأجر ومختلف السلع والخدمات التي يسعى الفرد إلى الحصول عليها وإن تدرَّجت أولوياتها، وخلال سعيه إلى تحقيقها والحصول عليها، فإن ذاك السعي وطريقته ومنهجيته بكامل مكوناتها انطلاقا من الفكرة حتى الحركة أو أي جزئية بسيطة في ذلك، يُدعى هذا بـ”السلوك” ونظرا لكونه موجها نحو غاية الاستهلاك فإنه يوسم بـ”سلوك المستهلِك”.
هنا يمكننا التساؤل عن إمكانية توجيه سلوك المستهلك والتحكم فيه بنسبة أو بأخرى؟ والإجابة هي نعم، والدليل هو تلك الحملات الدعائية الترويجية للمنتوجات والإشهارات، فهي تستهدف تكوين أفكار وانطباعات لدى المستهلك لتوجِّهه ليقتنيها، وطبعا هذا إيجابيٌّ وشرعي، ولكن بما أن سلوك المستهلك يوجه بالأفكار، قد توظف هذه القاعدة في سياق سلبي هدام وهو التأثير على السلوك ليزرع الخلل.
ولعل ما سبق التطرق إليه حول هذا الجانب الأساسي والفعال في تحديد الكثير من العلامات والظواهر يؤكده تعريف الباحث آنجل، من ناحية أنه تصرُّفٌ يصدره الفرد خلال قيامه بالبحث عن إشباع حاجة ما لديه، إذ يعرّفه على أنه: “الأفعال والتصرفات المباشرة للأفراد من أجل الحصول على المنتَج أو الخدمة ويتضمن إجراءات اتخاذ قرار الشراء” (1)، وكتحليل بسيط لهذا المفهوم المقدم من طرف هذا الباحث، وبما أن موضوع سلوك المستهلِك مرتبط وموسوم بمصطلح “التصرف” أو “الفعل الإجرائي”، ولابد أنّ لكل فعل إجرائي تبعاتٍ ونتائجَ، فكيف ستكون نتائج هذه التصرفات الاستهلاكية على الفرد نفسه وحتى على المحيط الجمعي الذي يتواجد فيه، وقد يتعدى ذلك إلى جوانب أعلى وأكثر تعقيدا؟
وسلوك المستهلِك باعتباره جزءا ووجها من أوجه السلوك البشري يتأثر بقناعات الفرد وكذا بقناعات المحيط الاجتماعي والبيئي الحضاري الذي يتواجد فيه الإنسان، وينتقل ذلك التفاعل من علاقة التأثر إلى التأثير، أي أن سلوك الاستهلاك ومحدداته الخصوصية لدى فرد ما أو مجموعة أفراد كما تتأثر بالمحيط الاجتماعي كذلك تؤثر فيه، وأن سلوك المستهلِك لا يعكس فقط صورة المتغيرات الشخصية، وإنما يمتد للتعبير عن المتغيرات البيئية والاجتماعية الحضارية (2) .
“أنت اليوم حيث أوصلتك أفكارك وستكون غداً حيث تأخذك أفكارك” (3). هو مثلٌ قديم للفيلسوف والكاتب البريطاني الشهير (جيمس آلان)، والذي يعبّر ويُظهر تأثير الأفكار على مصير ووجود الإنسان، وعلى جميع سلوكياته، وسلوك المستهلِك ليس بمنأى عن تأثير الأفكار التي يتبناها الإنسان، بعبارة أخرى أفكارُ المستهلِك أكيد تترجمها سلوكياته، فالفكرة التي يتبناها الإنسان في هذا المجال تؤدّي دورا كبيرا في تكوين السلوك الاستهلاكي لديه، والفكرة هنا قد تكون ذاتية المنشأ تمثل رؤية شخصية للفرد، حتى وإن تأثرت جزئيا بالبيئة الخارجية وقد تكون وليدة تأثر الإنسان بالبيئة الخارجية مباشرة، ونتيجة هذا الطرح، فإن الأفكار تسيّر سلوك المستهلِك وتتحكم فيه من منطلق أن السلوك هو ترجمة للأفكار، وهنا يمكننا التساؤل عن إمكانية توجيه سلوك المستهلك والتحكم فيه بنسبة أو بأخرى؟ والإجابة هي نعم، والدليل هو تلك الحملات الدعائية الترويجية للمنتوجات والإشهارات، فهي تستهدف تكوين أفكار وانطباعات لدى المستهلك لتوجِّهه ليقتنيها، وطبعا هذا إيجابيٌّ وشرعي، ولكن بما أن سلوك المستهلك يوجه بالأفكار، قد توظف هذه القاعدة في سياق سلبي هدام وهو التأثير على السلوك ليزرع الخلل، لكن كيف؟ والجواب هو عن طريق زرع أفكار ذات سرعة انتقالية كبيرة تستهدف التأثير على نمطية سلوك المستهلِك وزيادة تفاعله بسرعة مع الفكرة بحيث يخرج عن دائرته الطبيعية العادية ليصبح غير مضبوط وغير مستقر، ولعل هذا يؤثر عن النمطية الاقتصادية العادية وهنا يحدث ما يسمى خلق الأزمة، وكمثال بسيط فإن نشر فكرة أنه مادة من المواد الأساسية ستنقطع في السوق، هذا يجعل المستهلك يتوجه نحوها بقوة وباقتناء غير عادي، وهكذا يساهم في خلق الندرة، لأن عملية الشراء هذه تمت بطريقة غير عادية وغير معتادة عن ما سبق، وهنا حدث هذا على مستوى المستهلك، وحتى على مستوى الممون أو نقطة البيع، تحدث العملية بطريقة غير عادية إذ تخرج من المخازن كميات كبيرة عن غير العادة بما لا يتوافق مع ما كان يحدث سابقا خلال الأيام العادية، وهذا بطبيعة الحال يشكل فجوة في السوق الاقتصادي ويخلق أزمة تزعزع مسار العملية الاستهلاكية لهذا المنتَج بطريقة فظيعة، وتدمر سياسات اقتصادية بمجرد تبني فكرة مغلوطة تؤثر على السلوك الاستهلاكي الفردي والجماعي، وتضطرب إعدادات ضبط العملية الاقتصادية وتبرز أزمة الندرة.
هذه الأزمة التي تكون الفكرة من بين أسبابها ومحكماتها، ومن أجل حماية السلوك الاستهلاكي والنظم الاقتصادية وجب تحصين الأفكار من هذه الإشاعات، وذلك عن طريق محاربة مصادر الأفكار المغلوطة وتحسسها، وبرمجة برامج دورية تُطْلع المستهلِك على سير تسويق وتوفر المواد الاستهلاكية ذات الاستعمال الواسع والحيوية منها، وتكثيف المعارض والصالونات التسويقية للمنتجات الحيوية، كل ذلك يدخل في حماية المنظومة الاقتصادية والتي هي من أمن الوطن.