شطحات صوفيّة منسوبة إلى الخضر
في بعض الطّرق الصّوفيّة أتْباع غُلاة يقولون إنهم يرون في وجوه مشايخهم أنوارًا تخرق سُبُحات الغيب فتنقل التّبيع من ثقْلة الطّين إلى أشواق الرّوح وتحرّره من أدرانه وأوزاره فيصير -في حضْرة شيْخه- ميّتا بين يديْ مغسّله، شبيها بالملائكة المقرّبين. ويتحدث بعضهم عن “شطحات صوفيّة” ينسبونها إلى الخضر -رضي الله عنه- ما جاءت بها آياتُ الذّكر الحكيم، ولا أشارت إليها سنّة المصطفى الكريم –صلّى الله عليه وسلّم-، فموسى –عليه السّلام- لم يكن بحاجة إلى وحي يضيفه إلى التّوراة، ولا إلى كشْف يعرف به ما غاب عنه، ولا إلى “عشْق إلهيّ” يحبّه به ربّه أكثر مما كان يحبّه، ولا إلى “اتّحاد حلولي” مع ذات من بعثه بالهدى ودين الحقّ!! فالخضر نفسه يعترف له أنه لا يملك من أمر نفسه شيئا، وأنّ ما فعله كان من رحمة ربّه بالمساكين وبوالديْ الغلام وباليتيميْن: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) (الكهف: 82)؛ فالأمر كلّه لله وليس منه شيء لغيره.
كان موسى –عليه السّلام- عازمًا على معرفة شيء من علم اللّطف يسترشد به في هداية بني إسرائيل، وهو علم واقع في “المنطقة الرّماديّة” الواصلة بين النيّة والعمل، أو بين الباطن والظّاهر.. وهي مسألة محسومة في مسيرة كلّ داعية وفّقه الله إلى استيعاب فقه النّوازل أو فقه المآل والمقاصد إذا أمسك بالميزان الشّرعي واستشرف المستقبل وفهم سنن التّغيير، فيكون الفكر نيّرا والاجتهاد رصينا والحكم قويمًا والتّصرّف حكيما تجاه كلّ طارئ. وفي جميع الأحوال ليس لمؤمن سوى الحكم على ظاهر ما يرى ويسمع، أمّا النّوايا والطّوايا والخفايا فيتولّى علاّم الغيوب ستْرها في الدّنيا حتّى يكشفها إن شاء يوم الحساب، وإن شاء سترها. فليس من مهمّة الدّعوة ولا من وظيفة الرّسل وورثتهم خرْق سفينة مساكين يعملون في البحر إذا علموا أنّ وراءهم ملك يؤمّم كلّ سفينة بقوّة قهره. ولم تأذن لهم شريعة الله بقتل نفس زكيّة بغير نفس حتّى لو علموا أنها سترهق النّاس طغيانا وكفرا. وليسوا مطالبين بالتّطوّع لإقامة جدران آيلة إلى السقوط دون طلب أجر على كدّهم وعملهم بحجّة أنهم استشرفوا ما ليس للنّاس به علم!
حركة حياة الناس محكومة بظاهر الأسباب، أما أقدار الله فجاريّة في أعنّة المشيئة يصرّفها الخالق بما شاء كما شاء، ويفعل ما يشاء ويختار. وما قام به موسى –عليه السّلام- يزيده تواضعا، ولا ينقص شيئا من مقام النّبوّة لصالح مقام اللّدنيّة، فكلاهما عطاءُ ألوهيّة مقسومة بين عباد الله برحمته؛ فهو الذي جعل رحمته قسْمة بين النّاس يجريها كما يشاء. فرشاد موسى –عليه السّلام- كاملٌ في المجال الذي وهبه الله له. ولكنْ شاء ربّه دعوته إلى لقاء علميّ مع رحمة أخرى منه أتاها علما غير الذي أوتيه موسى لتوقن البشريّة أنّ علم الله ممدود إلى ما هو أبعد من الوحي الذي هو من كلماته. والرّسل يتلقّون الوحي منه بما تتمّ به العبادة وتنتظم به حركة الناس في حياتهم وفي علاقاتهم، وبما يصلح به شأن الدّنيا ويكون سببا في الفوز يوم الحساب. ومع ذلك يظلّ كلّ رسول مفتقرًا إلى رحمة ربّه وإلى علمه لسدّ ثغرة أخرى في حركة الكون أرادها الله -جل جلاله- ألاّ تُسدَّ إلاّ بكيفيّة أخرى غير ما تعارف عليه النّاس من مستويات رشاد.
هكذا يظلّ كلّ إنسان مرابطا على الثّغر الذي يتقن حراسته؛ حارسا لأمانة الله ناصحٌ لأمته. وكلّ مسيّر لما خُلق له. روى مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: جاء سُراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنّا خُلقنا الآن، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يُستقبل؟ قال: “لا، بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير”. قال: ففيمَ العمل؟ قال: “اعملوا فكلّ ميسَّر لما خُلق له”. وفي رواية البخاري عن علي -رضي الله عنه-: “ما منكم من أحد إلاّ وقد كتب مقعده من النّار أو مقعده من الجنّة. قالوا: يا رسول الله أفلا نتّكل على كتابنا وندَع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسّر لما خلق له؛ أمّا من كان من أهل السّعادة فييسّر لعمل أهل السّعادة، وأمّا من كان من أهل الشّقاء فييسّر لعمل أهل الشّقاء. ثم قرأ: “فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)) (الليل: 5- 10).