-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
"الرجل المهووس بالسلطة"

شهادات في حق الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة

الشروق أونلاين
  • 14430
  • 0
شهادات في حق الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة
ح.م

تسلم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رئاسة الجزائر بعد عشرية سوداء من الدماء والدموع، جعلت الجزائر تبلغ درجة من الانحدار والتخلف بحيث بلغ اليأس بالفرد الجزائري الذي عانى الويل أن أصبح ما يتمناه هو استرجاع أمنه وسلامته ولو على حساب قوت يومه، فكان الجميع ينشد لحظة أمان تغنيه عن الحق في العمل، وحتّى الحق في سدّ الرمق، لأنّه بلغ به الإدراك إلى الوقوف عند أهمية ما يسمى بالعيش في كنف السكينة والأمان، حيث لا شيء يعلو عليهما مهما بلغت درجة المُغريات التي تعتبر في آخر الأمر من النزوات العابرة التي يمكن الاستغناء عنها.

هذه الدرجة من اليأس والقنوط، دفعت بالفرد الجزائري إلى أن تكون ضالته نِشدان السكينة والأمان، وفضَّلهما على المأكل والمشرب، وعن العمل والرفاهية، من هناك سكنه هاجس يسمى ” قيمة الأمن والسلم”، وهو ما جعله يحثّ السير من أجل الحصول عليهما، ولو كانت بواسطة يد تمتدّ وتنتشل ما علق بالأذهان المجروحة، والقلوب المنكسرة من ويلات تلك السنوات التي اختلط فيها الحابل بالنابل، إلى درجة اندغمت فيها فرضية “من يقتل منْ، ومن يمسك بطرفي معادلة البقاء أو الزوال”؛ في لحظات هذه الحيرة المُطبقة على الجميع بزغت شمس طائر غريب، وفارس منتظر من بعيد، وأمل مُشع من وراء الدياجي المُدلهمة بالانكسار والدمار.
ظهر هذا الرجل المسمى عبد العزيز بوتفليقة، والقابع في غياهب النسيان، والمنبوذ من قبل رفاق دربه منذ زمان، وتشاء الأقدار أن تمنحه حقّ العودة إلى الديار، وفرض شروطه التعجيزية لكي يقبل بتحمل مسؤولية إنقاذ ما خلفه الدمار، فكان مجيئه كمثل الغيث على الأرض البوار، لكنّ هذا القادم من التيه والغربة، والمسكون بحب التسلط والثأر، لأنّه عانى من ويلات التهميش كما يعتقد، وأزيح قهرا من موقع كان فيه قاب قوسين أن يكون الوارث الشرعي للسلطة، لكنّ الأقدار حالت دون بلوغه الغاية وتحقيق الهدف الذي رسمه لحياته منذ استقلال الجزائر، وربّما قبل استقلالها. لكن رفاق دربه كانوا على بيّنة بطويته المجبولة على حبّ الريادة والزعامة، فحالوا دون تحقيقه لغاياته، وكان عليه أن يقطع طرقات التيه والإقصاء.

فكما كانت الأقدار قد يسرت له أن ينخرط في سلك الثورة، ويربط علاقته ببعض أسمائها التي تشاطره الرغبات ذاتها، نجد بعض الذين جمعتهم به المقادير يروي لنا الأسباب المباشرة التي ألحقته بأجهزة ثورة التحرير، ومهدّت له الطريق ليصبح عنصرا فاعلا بين دواليبها الخفية والعلنية. يقول من عرفه في ذلك الوقت البعيد، إنّ الثورة التحريرية من منطلق غاياتها وأهدافها، أنّها فكرت في إنشاء جهاز للاستخبارات والتسليح بعيدا عن أعين العدو الاستعماري الفرنسي، واختارت له مكانا يناسب غايات وأهداف هذا الجهاز الحيوي والفعّال، فتجمع كلّ الروايات الشفوية والمكتوبة أنّ مولده كان بضواحي مدينة وجدة المغربية، وكان على رأس تأسيس هذا الجهاز المرحوم المجاهد عبد الحفيظ بوصوف، الرجل الذي يُجمع الجميع على عبقريته في هذا المجال، فكان هو رأس هذه النواة الاستخباراتية والتسليحية رفقة كوكبة من المناضلين الشرفاء الذين آمنوا بقضية الجزائر العادلة؛ وهي العمل على تحرير الجزائر من براثن الاستعمار الفرنسي الاستيطاني الغاشم.

في هذا الخضم الثوري، الذي فتح بوّابة للأمل، وأخرى للتحرّر، تكون المقادير قد هيّأت للزعيم المستقبلي أن يعثر على ضالته المنشودة؛ فتقول رواية شهود العيان أنّ رأس التنظيم الاستخباراتي الثوري، عبد الحفيظ بو الصوف، كان في قمّة الانضباط والصرامة، وفي قمّة الدقّة والتحرّي في انتقاء عناصره الكفأة، وكان مشهودا له بصرامة زائدة عن الحدّ أحيانا، وماسكا بزمام الأمور إمساك مُقتدر شديد، تميّزت قاعدته بالسرية والكتمان، وجُبل على الشدّة والجديّة في العمل الذي تنشده الثورة، ويطمح إليه الجميع، لذا كانت السريّة والالتزام هي عناوين قاعدته الغربية التي تُزوِّد قيادات الثورة بما يلزم من المعلومات والتسليح، والاستشراف والمُباغتة.

هذه الصرامة الثورية المُنتهجة من قيادة هذه القاعدة الغربية، جعلت من بوالصوف رمزا من رموز التحدّي والتصدّي، وجعلت أفراد قاعدته يتّسمون بدورهم بالصرامة والاجتهاد، فكان العمل الدّؤوب هو شعار الجميع، والتفاني في إنجاز المهمات المستحيلة هو غاية يجب أن يتحلّى بها كلّ فرد من أفراد المجموعة.

ومع مرور الزمن، ورسوخ تلك المبادئ الثورية الصارمة في ذهنيات كل أفراد القاعدة، تقول بعض الروايات إنّ قائد الفريق الاستخباراتي، بدأ يراوده الإحساس بالاطمئنان إلى أفراد مجموعته، فراح يتسامح شيئا ما مع أفراد مجموعته، ومكنهم من حقّهم الطبيعي في الحياة، فصار يسمح لبعض المجموعات بالترويح عن النفس في بعض الأحيان، وذلك بتمكينهم من زيارة مدينة وجدة وأطرافها في أواخر الأسبوع.
وتقول مصادرنا، لقد صادف وأن نزلت مجموعة من رفاق الثورة، بما فيهم المجاهد المرحوم هواري بومدين، إلى مدينة وجدة في آخر أحد الأسابيع، وكانت غايتهم حب الاستطلاع، والبحث عن الترفيه، واستكشاف أسرار المدينة المغربية، المُتاخمة للحدود الجزائرية، ومن هناك تقول الرواية، إنّ المجموعة التي كان ينضوي فيها الراحل هواري بومدين، سواء بالصدفة أو عن بيّنة مُسبقة، وقعت في مرفق يشبه الحمّام التقليدي وما يشبه المقهى أو ما شاكل ذلك، وكان هذا المرفق تديره أسرة عبد العزيز بوتفليقة، فوجد فيه رفاق هواري بومدين العناية وحسن الخدمة، ولطف الاستقبال من لدنّ أصحاب ذاك المحل العمومي، فاستلطف الجميع ذاك المرفق المِضياف، ما جعل المجموعة تتّخذ منه مكانا للراحة والاستمتاع بما تشتهي النفس، وصادف أن تعرّف هواري بومدين على شابّ هناك، يتَّقد نشاطا وحيوية، ويشعُّ من عينيه بريق النباهة والفِطنة، فأعْجِبَ به إلى درجة جعلته يصطحبه معه إلى قاعدة العمليات، ويشرع في تكليفه ببعض المهام الإدارية كتدبيج بعض التقارير أو تحريرها.

وجد هواري بومدين في هذا الشاب اليافع، ما كان يبحث عنه ليساعده على تقاسم مهامه الإدارية والاستخباراتية، وهو ما أدى به إلى ائتمانه على أسرار مكتبه، والاستئناس حتّى ببعض آرائه، بل تجاوز به الحدّ لاستبقائه في مداومته لمّا يهمُّ الراحل هواري بومدين بالتسلل إلى مدينة وجدة برفقة زملائه، ومن هنا تقول الرواية بدأت تتوطد علاقة صداقة قوية بين هواري بومدين المناضل المجاهد، والشاب عبد العزيز بوتفليقة المتطلع إلى حياة جديدة في كنف هذه المجموعة الثورية التي شعارها العمل، والالتزام والسرية المُطبقة.

هذه إحدى الروايات التي تكشف عن سرّ العلاقة المبكرة التي جمعت بين الرجلين منذ خمسينيات القرن العشرين، ومن هناك نجد الشاب عبد العزيز بوتفليقة يلتحق بصفوف ما يسمى بتنظيم “المالق”، الذي من مهامه التسليح والاستخبارات، ولمّا كان الشاب الطموح غاية في الذكاء والفطنة، والقدرة والتمكن من لغتين على أحسن وجه، وأعني بهما العربية والفرنسية، صار من الضروري التمسك بهذا العنصر الذي رمت به المقادير في أحضان هواري بومدين ليتقاسم معه المهام المُلقاة على عاتقه، وتحوّل مع الأيّام إلى ما يشبه الضرورة المُلحَّة بالنسبة لهواري بومدين. ولهذه الأسباب، وغيرها، ممّا لا نعرفه، توطدت العلاقة بين الرجلين إلى أن فصل بينهما موتُ أحدهما قبل الآخر، وهو رحيل هواري بومدين.

هذه العلاقة التي يمكن أن نرجع أسبابها إلى عامل الصدفة، هي التي مكَّنت الشاب عبد العزيز بوتفليقة من الانخراط في صفوف جيش التحرير، لأنّ الصدفة لم يبحث عنها بقدر ما جاءته مُنقادة فلم تكُ تصلح إلاّ له، ولم يكُ يصلح إلاّ لها كما قال الشاعر قديما.

لقد تحوّل حضور هذا الشاب في حياة الرجل المُبهم والطموح، هواري بومدين منذ ذلك العهد، إلى ما يشبه العناية الربّانية، وكم تساءل بعضهم، وربّما إلى يومنا هذا، عن سرّ هذه العلاقة التي جمعت بين الرجلين، ولم يحدث وأن اهتزت في أي لحظة من لحظات مسارها الطويل إلى حدّ ما، وراحت هذه العلاقة تزداد متانة، مع الأيام، كما تزداد مُرافقة، فها هو هواري بومدين، الذي لم يشارك في حياته الثورية في معركة من معارك جيش التحرير، نجده لا يتوانى في العمل على إلحاق عبد العزيز بوتفليقة بمهامه الجديدة من قِبل الثورة، وأعني بذلك قيادة الأركان في قاعدة غار الدماء بالشرق الجزائري.

وتنسب وثائق الثورة الكثير من المهام التي قام بها بوتفليقة كمُوفد من قبل هواري بومدين لتحقيق مآربه الطموحة والمخبوءة تحت رتبته كقائد للأركان في جيش التحرير الوطني والتي من أبرزها المهام التي اضطلع بها كمُوفد من قبل قيادة هيئة الأركان، وبصفته كمفاوض مع الزعماء الخمسة لمّا كانت هيئة الأركان منشغلة بالبحث عن زعامة تتخذها جسرا لتحقيق مآربها في الاستيلاء على السلطة في مستقبل أيامها، وهو ما تحقق لها بعد استقلال الجزائر.

ولعله كان لبوتفليقة الدور البارز فيما بلغته هيئة الأركان من استيلائها على زمام الأمور بعد الانقلاب الذي قام به هواري بومدين على السلطة الشرعية عام 1965، حيث لا يمكن تحييد دور بوتفليقة كعنصر فاعل في مثل هذه المهام المُستعصية على غيره.

بالإضافة إلى هذه الشهادة التي ردّدها بعض قيادات الثورة، يمكنني ذكر شهادة ثانية من أجل تعزيز ما سبق ذكره، وأعني بذلك شهادة زوجة المرحوم الرئيس هواري بومدين التي جمعتني بها الظروف في إحدى المناسبات الثقافية، بالمكتبة الوطنية بالجزائر، وقد صادف ذلك مع تحضير الانتخابات الرئاسية التي جمعت بين بوتفليقة والمرشح المعارض على بن فليس، فكنّا على طاولة الغداء رفقة مجموعة من المثقفين فدار بيني وبين السيدة أنيسة بومدين حديث عن الانتخابات، وبادرتها قائلا: أكيد أنك ستكونين إلى جانب صديق زوجك هواري بومدين ما في ذلك شك وأعني بذلك مُنَاصرة عبد العزيز بوتفليقة كما هو طبيعي؟
لكن المفاجأة كانت صارخة، لأنّ السيّدة أنيسة بومدين ما إن سمعت اسم بوتفليقة حتّى اشتطت غضبا، وراحت تلعن اليوم الذي عرفته فيه، قائلة إنّ هذا الكائن المُريب، كان يسكن دماغ هواري بومدين، فهذا الأخير لا تخطر على باله فكرة إلاّ وطلب عبد العزيز بوتفليقة ليستأنس برأيه ما جعله – كما تقول أنيسة– دائم الحضور بيننا ليلا ونهارا حتّى ضجرت من وجوده، وقلت في يوم من الأيام لهواري بومدين الرئيس: إلى متى سيظل معنا هذا الإنسان؟ فكان ردّ الفعل هذا من طرف أنيسة بومدين جدّ مُستغرب، ويعكس في ذات الوقت، قوّة الرباط الذي يجمع بين الرجلين.. بحيث كان لا يستغني أحدُهما عن الآخر، ومثل هذه الظواهر كثيرا ما حدثت في التّاريخ.

ومن الشهادات التي كنت حاضرا فيها، وشاهد عيان على ما أقول، أنّه جمعتني مناسبة ثقافية بالمرحوم الروائي الطاهر وطار، وكذلك الكاتبة والصحفية بوروينة والقاص عبد المجيد عبدوس حيث استضافتنا الإمارات العربية المتحدة، في تسعينيات القرن العشرين، وصادف أن كنت أنا والمرحوم الطاهر وطار، حيث نزلنا في فندق فخم، لا أذكر اسمه في أبو ظبي، ولمّا دخلنا إلى بهو النزل لمحت شخص بوتفليقة وهو يصعد في السلم، وهو لا يزال في كامل قواه الجسدية، فقلت إلى المرحوم الطاهر وطار: أنظر من هناك؟ وبعد ساعة من الاستراحة نزلنا إلى البهو فوجدناه، فبادره الطاهر وطار بالتحيَّة لأنَّه كان يعرفه من قبل، ثمّ سلَّمت عليه أنا من بدوري، وجلسنا قليلا: فسألنا عن سبب مجيئنا فقلنا له: لحضور ندوة ثقافية، ثمّ بادره المرحوم الطاهر وطار سائلا عن سبب وجوده هنا، فقال: أنا هنا أعمل مستشارا لِمستشار زايد بن نهيان… وافترقنا على هذه الشهادة التي رأيت من باب الواجب التاريخي أن أذكرها.

ومن الشهادات التي كنت شاهدا عليها؛ وتعكس وضع بوتفليقة على أعقاب وفاة هواري بومدين، وقطع الطريق أمام بوتفليقة حتّى لا يخلفه على رئاسة الجمهورية الجزائرية حين اشتدّ وطيس التنافس بينه وبين المرحوم العقيد محمد الصالح يحياوي، وانتهى بهما الأمر إلى الاستبعاد، ولجم طموحهما رغم كلّ الجهود التي بذلها عبد العزيز بوتفليقة قبل رحيل هواري بومدين، ومحاولته المستميتة من أجل إقناع هذا الأخير باستحداث منصب نائب الرئيس في الدستور الجزائري، حتّى يكون – ربما– من نصيبه في أيّ لحظة مناسبة؛ لكن المرحوم هواري بومدين كأنّي به يُلجم طموحه إمّا خوفا منه، أو خوفا عليه، ولا يجعله يحقق هذه الغاية التي ظلت تؤرِّقه، وتُقضُّ مضجعه إلى أن تحقق له ذلك… وتشاء الأقدار أن يجد نفسه في ذات الموقع الذي كان فيه الراحل هواري بومدين، وبالرغم ممّا لحقه من مرض وانهيار في الصحّة إلاّ أنّه استلهم من موقف الراحل هواري بومدين ولم يسمح لأحد في دولته أن يفكر في اعتلاء مثل هذا المنصب كنائب للرئيس وذلك لحدّة توجُّسه وعدم الاطمئنان إلى مثل هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر رغم شدّة الحاجة التي تقتضي أحيانا اللجوء إلى مثل هذه الحلول التي تطلبها الضرورة، كما حدث مع الوضع الصحي لبوتفليقة خلال عهدته الرابعة.

ولعل مثل هذا الحذر والتوجس المُفرط من قِبل عبد العزيز بوتفليقة هو الذي جعل العقيد محمد الصالح يحياوي يذكر في مناسبة جمعتني به، وهي مناسبة مُصاهرة جمعت بين عائلة العقيد محمد الصالح يحياوي والجنرال رابح بوغابة أيام كان قائدا للناحية العسكرية الخامسة بقسنطينة، حيث صادف الأمر مجيء بوتفليقة لتولي رئاسة الجمهورية الجزائرية، فقال المرحوم يحياوي، وكنّا بصدد الحديث عن تولي بوتفليقة للسلطة، فقال: بمحضر الجميع هذا الرجل – يقصد بوتفليقة– جاء لينتقم؟ ثمّ قال: وأشار إلى الجنرال بوغابة وهو في عزّ انتصاراته كتحقيقه للمصالحة بين الجناح المسلح (AIS) للجبهة الإسلامية للإنقاذ والسلطة الجزائرية أيام رئاسة الأمين زروال، قال: “هؤلاء الجنرالات سيقزّمهم، هم يظنونه مثل بوضياف، سوف تروْنَ”… هذه كلمات للعقيد المرحوم محمد الصالح يحياوي في ذلك الوقت…

وأضاف المرحوم محمد الصالح يحياوي قائلا: لقد كنّا أيّام بومدين نحن من يتحمل أعباء المسؤوليات بجدٍّ وتفانٍ لكن من كان يحظى بالتقدير والتبجيل هو عبد العزيز بوتفليقة، حتّى أنّ المرحوم الشريف بلقاسم حاول في العديد من المرّات التقرب من الرئيس هواري بومدين بشتى الوسائل قصد زحزحة بوتفليقة من المنزلة التي يحظى بها لدى الراحل هواري بومدين، لكنّه فشل في كلّ محاولاته، واستسلم بعدها للأمر الواقع، واقتنع أن لا سبيل للحيلولة دون الحُظوة التي يحظى بها بوتفليقة لدى الرئيس هواري بومدين، فهو الوزير المدلل الذي يفعل ما يريد، ويرتكب من التجاوزات التي لا يُعاقَبه عليها رئيسُ البلاد هواري بومدين…

لكن ما أذكره عن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، هو حضوري لأول مرّة لمؤتمر جبهة التحرير، وذلك قُبيل زحف الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الساحة السياسية، وأعتقد أن الصُدف هي من مكَّنتني من حضور ذاك المؤتمر الأول والأخير في حياتي؛ لأنّ بعد هذا المؤتمر غلّقت جبهة التحرير أبوابها أمامي، ولم تسمح لي حتّى بالترشح للبلديات، بل كنتُ كلّما قدمت ملفا إلاّ واتفق جميع أعضاء محافظة قسنطينة على استبعاده، وكنت الوحيد الذي لا يتلقى ردّا من الهيئة الوطنية لجبهة التحرير توضح لي فيها أسباب استبعاد ملفي من أيّ استحقاق يُذكر، وهذا إلى يومنا هذا، بحيث كان السائق والحارس في الحظائر وكل من يمارس مختلف المهن يحظى بالقبول، وكذلك بالردّ على طلب ترشحه، إلاّ أنا ولم أعرف إلى يوم النّاس هذا لماذا كان يمارس في حقّي مثل هذا الإقصاء بهذه الشراسة البشعة، لكنهم كانوا يلجأون إليّ في مُعظم المناسبات الوطنية لأحاضر لهم بصفي أستاذا جامعيا على دراية بتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية.

في هذا المؤتمر التاريخي أشهد أنني عاينت انتهاء جبهة التحرير كحزب تاريخي؛ هذا الحزب الذي احتضنني صغيرا في ستينيات القرن العشرين، ومكنني من مواصلة دراستي الثانوية بتونس بعد أن أُقصيتُ من طرف الجمهورية التونسية عام 1961، بصفتي كجزائري لا يحق له أن يحصل على منحة لمواصلة دراسته، من هذا التاريخ البعيد ارتبط مصيري بجبهة التحرير العتيدة وأصبحت مدينا لها طول حياتي، وحالت دوني والتطلع للانضمام إلى صفوف حزب آخر إلى يوم الناس هذا…

هذا المؤتمر التّاريخي حضره كبار جبهة التحرير التاريخية أمثال: عبد الحميد مهري كرئيس للحزب أيام حكم الشاذلي بن جديد، والعقيد محمد الصالح يحياوي، والمرحوم العقيد على منجلي، وعبد العزيز بوتفليقة وأحمد طالب الإبراهيمي وغيرهم من عمالقة جبهة التحرير.

هذا المؤتمر التاريخي، هو بداية نهاية الحزب العتيد جبهة التحرير التي عاهدها الشعب الجزائري، وقد أعطيت الكلمة في هذا الحزب الجامع لثلاثة أقطاب كبرى في ردهاته؛ أعطيت الكلمة لأحمد طالب الإبراهيمي الرجل المثقف والسياسي المحنك، أقول هذا من باب المعاينة لأنّه جمعتني به ندوة عالمية بقرطبة عام 2004 وعرفت من خلالها قيمة الرجل العلمية، فجاء خطابه عاكسا لمشروع سياسي منبثق من عُمق مبادئ جبهة التحرير التاريخية، الذي ينحو إلى رسم ملامح جزائر في إطار المبادئ الإسلامية التي تتخذ من العصرنة والحداثة سبيلا لها، ثم جاء دور العقيد محمد الصالح يحياوي لينطلق بدوره من مبادئ جبهة التحرير الوطني المكرسة للعدالة الاجتماعية في إطار المبادئ الإنسانية، دون إغفال لبعدها العروبي المتأصل في كيانها الاجتماعي، ثمّ جاء دور عبد العزيز بوتفليقة لينطلق بدوره من مبادئ جبهة التحرير التي تنشد العصرنة والتفتّح وتُسابق مسارات التقدم والتفتح، وكأنّي به كان يُنشد لبيرالية عصرية تعانق المستقبل…

فكانت هذه البرامج الثلاثة آنذاك كفيلة بميلاد ثلاث تيارات حزبية تنبثق بكل جدارة من بوتقة واحدة، يُقال لها جبهة التحرير الوطنية التّاريخية، وكنت شاهدا في تلك المناسبة التاريخية الفريدة من نوعها على الصراع الحاد الذي دار بين أقطاب جبهة التحرير التاريخية، وما أذكر في هذه المناسبة سوى حدثين جديرين بالتذكير وهما: اتهام عبد العزيز بوتفليقة باختلاس المال العام، تلميحا وليس تصريحا، وكان ردّه التاريخي، عدم تنكّره لهذا الاتهام، بل قوله حتّى يكون صحيحا يجب تعميم هذا الاتهام على الجميع، وبالتالي فهو مستعدٌّ كغيره للمساءلة ولو اقتضى البقاء في المؤتمر لمدة شهر حتى يحاسَب الجميع كما قال، سواء على ما أخذ لنفسه أو لأهله أو لإخوانه، وما أتذكره جيّدا أنّ الجميع التزم الصمت في تلك القاعة الغاصة بالوجوه التّاريخية، ولم يعد هناك ذكرٌ لهذه التهمة.. ومن خلال مسار الأيام ظلت تلازم بوتفليقة تهمة مدّ يده على المال العام، ومن هناك أجدني أخلص إلى ذكر المرحلة التي تولى فيها السلطة لمدة عشرين سنة فكان طابعها المُميّز سوء التسيير واختلاس المال العام، حتّى عمّت ظاهرة اختلاس المال العام وانتشرت في كل مفاصل المجتمع الجزائري.

أمّا الحدث الثاني الذي سُجِّل في هذا المؤتمر التاريخي، وأراه يستحق الذكر، فهو تدخل العقيد علي منجلي الساخط على جبهة التحرير ورجالاتها، وجاء تدخله باللغة الفرنسية وكان رد فعل المناضلين من القاعدة جدُّ مُستفزّ للعقيد بحيث رفضوا أن يخاطبهم بالفرنسية، وكان الرجل عاجزا عن التكلم بالعربية، فكان في قمّة الهيجان على رفاق دربه، فأشبعهم شتما وقذفا بالعبارات النابية، وهدّدهم بزحف “الفيس” والذي سوف يسلبهم امتيازاتهم كإعادة الزواج، والتمتُّع بالسيارات الفاخرة، وطردهم من مناصبهم، ووصل به الأمر إلى نعتهم بالمجرمين… ما جعل المرحوم عبد الحميد مهري يعمد إلى غلق الميكروفون بيده حتّى لا تصل إلى الشاذلي بن جديد ومن معه في المنصة شتائم علي منجلي النّارية…

ومن الشهادات الجديرة بالذكر في هذه المناسبة، والمتعلقة ببوتفليقة ومساره السياسي، هو ما سمعته من الجنرال خالد نزّار لمّا كنت مديرا لمركز الدراسات والبحث في تاريخ الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، حيث سنحت لي فرصة الالتقاء بالجنرال المتقاعد آنذاك خالد نزار في بيته بأعالي العاصمة بحيدرة بالجزائر العاصمة، وكانت هذه الزيارة في حدود 2002 بمناسبة تسجيل بعض شهادات المجاهدين من أجل إنجاز ما كان يُعرف بـ”سيديروم” الحركة الوطنية، كانت هذه المناسبة التي عادة ما تكون ضمن فريق عمل من أجل تسجيل الشهادات الحية من فم صانعي ملحمة التحرير، وكنت لأول مرّة ألتقي وجها لوجه مع هذا الجنرال المتقاعد والمحسوب على ضباط فرنسا الملتحقين بالثورة التحريرية بعد اندلاعها، كما كانت لي هذه الفرصة لأعرف عن قرب مسكن هذا الجنرال العتيد والذي تقاسم هضبة حيدرة الفخمة بينه وبين السفارة الفرنسية، ولم يكن من السهل الوصول بسهولة إلى هذا العرين المدفون في أدغال هضبة حيدرة، لولا الترتيبات المسبقة، والإجراءات المضبوطة بكلّ دقة واحتياط.
لقد دخلت إلى هذه الحظيرة المُحرّمة رفقة فريق العمل، ووجدنا سيادة الجنرال في استقبالنا، وبصفتي مديرا لمعهد الدراسات حظيت لدى الجنرال بجلسة على انفراد بيني وبينه، فلمّا تمّ التعارف بيننا حاولت استفزازه، أو مُشاكسته بقولي له: هل مازلت مقتنعا بأنّ السيد بوتفليقة يستمدّ رجولته من برنوس بومدين؟ فلاحظتُ أن ملامحه قد تغيّرت، واعتراه شيءٌ من الارتباك، وقال: “ليس هذا موضوعنا”، فانكمشت ورحنا نتجاذب أطراف الحديث، إلى أن قال لي: “نحن لم نتمكن من فهم هذا الرجل، فأمره غريب، فمع العرب يكون عربيا أكثر من العرب، ومع الفرنسيين يكون فرنسيا أكثر منهم”… ثمّ استرسل في الكلام قائلا: “لولا أحداث 11 سبتمبر 2001 التي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية، لكان هذا السيد قد جرّنا إلى محكمة لاهاي الدولية”. ثمّ قال كلمة لا يزال وقعُها في ذهني إلى هذه اللحظات، التي أكتب فيها هذه الشهادات، ويقصد من خلالها بوتفليقة “لكن لو حدث له شيء في المستقبل فما أؤكده أنّه لن يجد النُّصْرَة من المؤسسة العسكرية، وعليه أن يفكَّها بأسنانه”، هكذا قال الجنرال المتقاعد في تلك المناسبة، فأدركت أنّ الأمر بين الرجلين ليس على ما يُرام، ثمّ دخلنا مباشرة في موضوع الزيارة وهو شهادته التاريخية حول مرحلة معيّنة من تاريخ الثورة التحريرية.

بوتفليقة الرجل المهووس بالسلطة

تقول بعض الروايات إنّ ما يميّز بوتفليقة عن أقرانه هو حبّه للتميّز، ويتّسم بنوع من الوفاء إلى درجة التقديس، فمن يفعل فيه شبرا من الخير يردّ له مقدار ذراع من المكافأة، فيروى عنه أنّه لمّا تمت معاقبته في الحدود الشرقية، رفقة مجموعة من المجاهدين، بما فيهم المرحوم محمد الشريف مساعدية، طُلب منهم كهدف مستحيل التحقيق، وهو فتح جبهة للكفاح المسلح بالجنوب الصحراوي الجزائري، وبالتحديد على الحدود المالية، وصادف أثناء قطعهم لتلك البراري الشاسعة، أن أصيب بوتفليقة بمرضٍ عُضال أوشك أن يودي بحياته، فكان من بين رفاقه الذين سهروا على العناية به، وحتّى انتشاله هو المناضل والمجاهد المرحوم محمد الشريف مساعدية، حتّى أنّ هذه الذكرى الأليمة التي حزّت في نفسه إلى درجة جعلته لا يتردّد في تذكرها من حين لآخر قائلا: “لولا عناية هذه اللحية، ويقصد الشريف مساعدية لأكلتني الذئاب في الصحراء، فالفضل كل الفضل يعود إليه في إنقاذي من تلك الحادثة الأليمة”، وربّما هذا الصنيع هو ما جعله لا يتردّد في ردّ الاعتبار لمحمد الشريف مساعدية وهو في أحلك أيّامه وفي آخر حياته، وهو المغضوب عليه، ونجد بوتفليقة يُقدم بكلّ جرأة على عزل مناضل تاريخي كبير من منصبه من رأس مجلس الأمة، وأعني به المجاهد والمناضل الكبير بشير بومعزة، وينصب مكانه محمد الشريف مساعدية الذي لم يعمّر طويلا في هذا المنصب، والذي جعل منه الرجل الثاني في هرم السلطة قبل وفاته… لكنّ بوتفليقة يبقى ذلك الرجل الطموح والمهووس بحبّ السلطة والتسلط لذا كانت عاقبته منتظرة.

لقد تمكن بوتفليقة من تحقيق غاياته وطموحاته الجامحة، فنجده حاضرا تقريبا في كل الأحداث المصيرية التي شهدها تاريخ الجزائر المعاصر، ونال نصيبه من ريع الثورة التحريرية وهو في مقتبل العمر، إذ استوزر وهو في ريعان الشباب، ويمكن القول إنّ عبد العزيز بوتفليقة لم ينزل من سيّارة رسمية منذ 1962 إلى غاية 2019 والمسافة الطويلة جدّا التي تفصل بين التاريخين هي محطات كان له من الأدوار فيها ما مكَّنه من اكتساب حنكة ودُرْبَة، وفطنة وفِراسة في معرفة الرجال والنساء، وهي من الفرص النادرة التي لم تُتح لأفراد جيله، لكنه أُشرب على حب السلطة والتسلط، وتحول هاجسه المريض بهذه الزعامة الوهمية إلى ما يشبه المرض الحاد الذي يرهق صاحبه، وقديما قال المتنبي “وإذا كانت النفوس كِبارا تعبت في مُرادها الأجسام”؛ لذا انهار جسده الفاني، الذي لم يقرأ له الحساب الضروري، ودفع به هذا الهاجس إلى قبول التمسك بالسلطة حتّى ولو كان بين الحياة والموت، وربّما تفطن مُرافقوه إلى المرض الذي أصابه؛ وهو مرض الأنا المضخَّمة، فعاملوه وكأنّه في كامل قواه العقلية والجسدية فقدّسوه حاضرا وغائبا، وأضفوا عليه هالة من التقديس زادت من غروره وتماديه في ارتكاب الحماقات التي لا تُغتفر، ومع ذلك رضي بكلّ ذلك إلى أن داسته أقدام الحراك الشعبي الجزائري الكبير الذي انطلق في 22 من شهر فبراير من عام 2019 بعد عشرين سنة من تربعه على عرش السلطة الجزائرية، جمع خلالها كلّ السلطات المادية والروحية، وربّما حتّى التنفسية ليجعل من نفسه الزعيم المُلهم، والواحد الذي لا ينافَس.

بقلم: الأستاذ الدكتور عبد الله حمادي

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!