شهادة من داخل البرلمان الأوروبي

كُلّفتُ في صيف 2005 كسفير بقيادة رئاسة جامعة الدول العربية لدى الإتحاد الأوروبي، مملكة بلجيكا ودوقية لوكسنبورغ. لم يكن حينها مكتب الجامعة في بروكسل حائزا على الاعتراف كبعثة دبلوماسية ترقى إلى درجة تمثيلية موازية لسفارة، ولذلك كان الهدف الأول هو العمل على تحقيق هذا الأمر حتى يتسنّى للجامعة العربية كمنظّمة دولية إقليمية أن تتعامل قانونيا مع الإتحاد الأوروبي باعتبارها أيضا تنظيما دوليا إقليميا مع الفرق الكبير طبعا بين المنظمتين في كل المجالات. وقد تحقّق بفضل الله تعالى هذا الهدف منذ السنة الأولى من العمل، وبذلك بدأت العلاقة بين الجامعة العربية والإتحاد الأوروبي تأخذ طابعا أكثر احتراما وجدّية.
لكنّ العرب مع الأسف لا يُجمعون على شيء، وإذا أجمعوا عليه مجاملة -وهي العادة السائدة- فلا يلتزمون به. وقد شكّل هذا الأمر العقدة الدّائمة لكل مسؤول يمثل الجامعة العربية على أي مستوى.
ولا أكون مبالغا إذا قلت إنّ العبارة الأكثر تداولا في الجامعة العربية هي “العمل العربي المشترك”، ويُخيَّل للسامع أنّ هذه العبارة تتضمن شيئا ما يُجمِع عليه العرب في عملهم، غير أنّ الواقع العملي يكذّب هذا الإدّعاء.
وإذا أردنا أن نحدد مفهوما للعمل العربي المشترك أو أن نُخصّص قضيّة واحدة يُجمِع عليها العرب، لصُدمنا بواقع من الاختلاف الشديد في المقاربات والتعريفات والمفاهيم. كان يُعتقد في السابق أنّ القضية الفلسطينية تُجمع العرب لأنّها قضيَّـتُهم الأولى وانشغالهم الدائم والبند الثابت على جدول أعمالهم في كل اجتماعات مجالسهم بداية من عمل المندوبين إلى اجتماعات القمّة. لكنّ الواقع العملي والشاهد التاريخي يثبت بمرارة أنّهم أبعد ما يكونون على توافقٍ حول هذه القضيّة بالذّات. ولعلّ ما تشهده القضيّة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي إلى يوم الناس هذا يُثبِت بما لا يَدَع مجالا للشك أنّ موقف العرب من القضية الفلسطينية أشبه ما يكون بموقف إخوة يوسف عليه السلام من أخيهم في عدم صيانة أمانة أبيهم.
كنت أنتظر أن يعلن الإتحاد الأوروبي اعترافه بالنتائج، ولمّا تلكّأ الأوروبيون في ذلك اتصلت برئيسة إدارة المفوضية الأوروبية المعنية بالعالم العربي لكنني وجدتها في حالة نفسية سيّئة، شاحبة الملامح، صفراء الوجه، خافتة الصوت، ثم بادرتني بأنّ نتائج الانتخابات مخيِّبة للآمال وغير متوَقَّعة وليست في صالح مسعى الأوروبيين وعلاقتهم بالكيان الصهيوني، وأنّ فوز “الإرهابيين” -على حد تعبيرها- لا يُسهِّل مَهمّة الإتحاد الأوروبي في الوصول إلى السلام المنشود؟!
أشرف الإتحاد الأوروبي على الانتخابات التشريعية الفلسطينية في عام 2006، ولم يكتفِ بإرسال بعثة مراقبة، بل قام بالتمويل والمشاركة في التنظيم، وكنت كسفير على اتصال مباشر مع رئيسة البعثة الأوروبية، وقد كانت عضوا في البرلمان -السيدة ديكايزير- كانت امرأة سياسية حازمة تنتمي إلى الحزب الاشتراكي، بلجيكية الجنسية، والتي أفادتني بأنّ الانتخابات تمت في ظروف مقبولة وأنّ إقبال الناخبين كان كثيفا وأنّ النتيجة المُعلنَة بفوز مرشحي المقاومة شرعية وسليمة لا غبار عليها.
وكنت أنتظر أن يعلن الإتحاد الأوروبي اعترافه بالنتائج، ولمّا تلكّأ الأوروبيون في ذلك اتصلت برئيسة إدارة المفوضية الأوروبية المعنية بالعالم العربي لكنني وجدتها في حالة نفسية سيّئة، شاحبة الملامح، صفراء الوجه، خافتة الصوت، ثم بادرتني بأنّ نتائج الانتخابات مخيِّبة للآمال وغير متوَقَّعة وليست في صالح مسعى الأوروبيين وعلاقتهم بالكيان الصهيوني، وأنّ فوز “الإرهابيين” -على حد تعبيرها- لا يُسهِّل مَهمّة الإتحاد الأوروبي في الوصول إلى السلام المنشود؟!
أيقنتُ حينها أنّ الديمقراطية عندهم لا تعني حكم الأغلبية ولا تُمَكِّن لإرادة أغلب الناخبين إذا تضاربت مع أهدافهم. كما انتابني شعورٌ بأنّ هذا الأمر لن يمر من دون عدوان صهيوني على الفلسطينيين وهو ما حصل فعلا في ديسمبر 2008.
كان من التقاليد المعروفة في البرلمان الأوروبي استغلال مناسبة حفلات أعياد الميلاد لتنظيم لقاءات مسائية حول مائدة عشاء جماعي مع مختلف المجموعات الدبلوماسية المعتمدة لدى الإتحاد الأوروبي، وكانت المجموعة العربية طبعا مَعنِيّة كغيرها من المجموعات في برنامج لقاءات البرلمان. تمّت دعوة المجموعة العربية سنة 2008 والتي تزامنت حينها مع الاعتداء الصهيوني الوحشي على غزة والذي أُمطِر فيه القطاع بوابل من الأمطار النّارية التي لا تُبقِي ولا تذر، تحت سمع العالم وبصره، محدِثةً مجزرة وإبادة جماعية في أعظم كثافة سكانية على الأرض.
أجمعت دول الإتحاد المتباكية على حقوق الإنسان والمُنكِرة لنتائج انتخابات 2006 على حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه. وأعلنت الجامعة في بياناتها على التنديد والاستنكار كعادتها من دون أن يكون لها أي تأثير لا في نجدة الضحايا ولا في التأثير على الموقف الأوروبي.
وكانت العادة في مثل هذه اللقاءات والمناسبات أن تجمع مأدبة العشاء سفراء المجموعة العربية وأعضاء مكتب البرلمان الأوروبي في مقر البرلمان. بعد الاستقبال وعبارات المجاملة يبدأ اللقاء بكلمة ترحيبية من رئيس البرلمان والدعوة إلى تطوير التعاون بين البرلمان الأوروبي والجامعة العربية وكذا مع دول المجموعتين بصفة عامّة، ثمّ يُختَم اللقاء بفتح نقاش حر لمختلف اهتمامات المجتمعين. ثم يتولّى عميد المجموعة العربية تناول الكلمة ليُبيِّن بعد الشكر على الدعوة اهتمامات المجموعة وأولويات عملها المشترك.
بدأ اللقاء بصورة معتادة وبالإجراءات البروتوكولاتية المتعارف عليها. ولمّا فُتِح النّقاش العامّ طلبَت نائبة رئيس البرلمان الأوروبي الكلمة، وكانت سيدة يونانية الجنسية، خمسينية العمر، وشرعت في توجيه أصبع الاتهام إلى مختلف دول المجموعة العربية على الانتهاكات المُمنهَجة لحقوق الإنسان في العالم العربي، مؤكّدة أنّ الإتحاد وكذا الدول الأعضاء فيه لا يمكن أن تبقى مكتوفة الأيدي دون أن تتأثر علاقاتها بالعالم العربي.
استفزني تدخل هذه السيدة بهذه الجُرأة التي تجاوزت كل الأعراف الدبلوماسية، وانتابني غضب شديد (غضب جزائري أصيل)، فلا عميد المجموعة، ولا رئيس مجلس السفراء العرب، ولا أي سفير بادر بالرد أو التوضيح أو الدفاع رغم أنّ بلاد المتحدِّثة في تلك الفترة كانت تعاني إفلاسا اقتصاديا وتعفنا سياسيا وتجاوزا صارخا للحقوق والحريات العامة في مجابهة المتظاهرين في الساحات العامة. وكان من عادتي أن لا أتدخل في مثل هذه اللقاءات المجاملاتية، مكتفيا بمداخلة العميد ورئيس مجلس السفراء، لكنني هذه المرة قررت التدخل وبإيجاز.
قلتُ للسيدة نائبة الرئيس خاصة، والخطاب للجميع: “إنّ موضوع حقوق الإنسان يمكن إثارته في كل وقت ومع كل الدول، ولو فتحنا هذا الموضوع لعلمنا أنّ أعظم دول أعضاء هذا الاجتماع من الأصدقاء الأوروبيين مُدانون تاريخيًّا اتجاه شعوب العالم العربي، ومن المستحسن أن تنظر مثيرةُ هذا الموضوع في اجتماع اليوم إلى نفسها في مرآة بلدها هذه الأيّام، وأُحب أن أكون أكثر صراحة معكم لأنّ الصراحة في اعتقادي هي التي تُنشئ العلاقات الصادقة العميقة والدائمة. لقد أخذُت تعليمي العالي وتخصصي وراء التدرج في القانون العامّ في جامعة من أعرق الجامعات البريطانية وفيها درستُ حقوق الإنسان كما نَظَّر لها مناضلوها والمؤمنون بها، ولو كانت دول المجموعة وفيّة لماهية حقوق الإنسان كما تُدرَّس في جامعاتهم ما بقيت مكتفية في أحسن الأحوال ببيانات تدعو الكيانَ الصهيوني إلى حق الدفاع عن نفسه وهو يحرق الأخضر واليابس والمتحرك والساكن في غزة هذه الأيام. إنّ هذه الحِمم النارية التي تقع على غزة بكل ما ومن فيها لو وقعت على حديقة حيوانات في أوروبا لوقفتم كأوربيين كرجل واحد مدعمين بالسلاح والمال والمقاتلين لدرء هذه الهمجية على الحيوانات، ولكن لمّا كان الضحايا عربا مسلمين فهم خارج دائرة الإنسانية التي تدافعون على حقوقها. إذا كان هذا فهمكم لحقوق الإنسان فمن هو الإنسان الذي تقصدون؟ وبرأيي أشعر أن العرب عندكم لا يزالون خارج دائرة الإنسانية”.
كان هذا التّدخل صادما، ولكنه كان أيضا نقطة نهاية اللقاء من دون تعليق من أيٍّ كان.
وبالمناسبة، فإنّ الأزمة الأوكرانية اليوم دليل إثبات جديد على أنّ الإنسان عند الأوروبيين لا يشمل كل الآدميين.