ضرورة إعادة هيكلة الحياة السياسية في الجزائر
بينما يعتزم رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، مراجعة الحياة السياسية، أردت الإفادة بهذه الرؤى خاصة والمتأمل في التجربة السياسية الوطنية سيلاحظ بلا شك فوضى ديمقراطية فيها عشوائيات سياسية لم تصدر عن تفكير محكم ولا رؤية سياسية حقيقية الجوهر والمقاربة، بل جاءت أساسا نتيجة أزمات ونزوات سياسية فرضتها منعرجات أو تحديات ظرفية ولم تكن البتة رؤية حصيفة محسوبة المخارج والمآلات.
بالقدر ذاته لم تكن الحياة السياسية والعملية الديموقراطية نتيجة برامج أو رؤية مستدامة لمستقبل الشعب والبلاد، بل كانت بدورها نتيجة زعامات وأزمات ونزوات، وسرعان ما تبددت معها الفقاعات السياسية التي برزت نتيجة هذه المقاربات واندثرت بمجرد تحقيق مصالح أو مآرب، أو عجز السجل التجاري السياسي من تحقيق رصيد نضالي مالي أو سلطوي في لعبة المسؤوليات والمهام السياسية لمسؤوليها، كما أن الأحزاب التقليدية نتيجة التخبطات المختلفة وتحويل الأحزاب إلى أجهزة حكم وليس أدوات نقاش واقتراح وتكوين إذ أضحت تنتج قيادات شكلية تحفظ ماء الوجود وليست فعالة على مستوى واقع العمل السياسي، في إقناع مناضلين أو مواطنين خاصة في المناسبات الانتخابية التي توضح تماما حجم البون بين الأحزاب والشعب.
لكن مما لا شك فيه أن الوضع يطرح أزمة نموذج وأزمة عملية ديموقراطية لم تحلها تنظيمات دستورية ولا إصلاحات حزبية ولا عمليات فتح أو غلق سياسي، لأن المشكل لا يزال في الذهنية وليس في الأرضية والتقعيد لها، فنحن اليوم نجد أنفسنا ننظر لأزمة النموذج بألم وتشوش أفق، خاصة وأن البلاد بحاجة لإنتاج نخب سلطوية قوية وقادرة مكونة علميا وسياسيا ومؤهلة لطرح برامج الإصلاحات ونقد السياسات الخاطئة وتحمل تكلفة ذلل، مع تحمل المسؤوليات من أجل معالجة الاختلالات والتحديات بعيداً عن بقاء مؤسسات أساسية وجوهرية السند الوحيد في البحث عن القيادات والنخب وإنتاج حياة سياسية تلبس صولجان السلطة الفوقية للحفاظ على البلاد وديمومتها، وهو ما يشي بهشاشة العملية الديموقراطية وضعفها لأنها لا تنتج القادة من القواعد الشعبية ولا تطرح بدائل أو مشاريع وطنية تعبّر عن إرادة وآمال وآلام الشعب ولا تُبرز نخباً أو قوى قوية أو مقتدرة لإدارة الأمن القومي والاقتصاد الوطني والحياة السياسية بشكل محكم وفعال.
هناك حلقة مفقودة وبشدة، وهي أننا نملك أحزابا من دون حياة سياسية ولدينا نخب من دون تأطير أو مشروع وأن الجمود وعدم تحمُّل المسؤولية هما سيدا الموقف، وأن على النظام وحده أن يفكر في مستقبل مجتمع مستقيل من الطرح البنّاء والملاحظة الصحيحة العقلانية، والنشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يحلّ مشكلات المجتمع ولا يتركها فقط في يد قوى ومراكز وغرف مغلقة تفكّر فقط في مستوى ما تراه هي لا ما يراه الجميع.
في كل المنافسات السياسية التي مرّت بالبلاد، لم نرَ التفافًا شعبيا حول حزب قوي وبرنامج سياسي واقتصادي محكم ينافس على الحكم من دكة الاحتياط بينما هو يقترب من الشعب ويباركه الرأي العام معتقدا أنه فريق الأحلام الإصلاحي الذي يمكن أن يحوّل هذا البلد العظيم إلى دولة في مستوى إمكاناتها وطموحات شعبها وشهدائها، فلقد كان واضحا أن هناك خللا وفجوة عميقة في النموذج بين المجتمع الذي لم يجد قائده والبرنامج الذي لم يجد شعبيته، لكي يقفز على المعادلات التقليدية ويحدث زلزالا سياسيا واقتصاديا في الانتخابات وفي إدارة البلاد، ويتجاوز الخط الوطني في الحكم إلى إنجاز برنامج نهضوي، مستدام ومتنامي.
يتجلى هنا بوضوح بأن العبرة ليست بالمنظومة الحزبية الذاتية التي تعتبر الحاضنة المكوّنة للإطارات والمجموعات التي تناضل من داخل اللعبة وهي خارجها، لكي تكون البديل الشرعي لأي قيادة تفشل في امتحان الشرعية الشعبية لتحل محلها، فيقينا أجدني مؤمنا بأن القائد المستنير حتى ولو كان مستبدّا لن يعدم الوسيلة للإصلاح إذا توفرت له قوتان هما النية الصادقة والرؤية التنفيذية الفعالة، لكن مطلقاً لا يمكن إلغاء المدارس والجامعات، ولا يمكن للأستاذ والمعلم أن يصبح مجرّد واجهة عدمية لا تحوّل العقول والشخصيات إلى أخرى تصنع مصير الشعوب والأمم، ومما لاشك فيه أن الفني الحرفي بموهبته يستطيع بناء نماذج مبهرة لأن تجربته وموهبته تحوّلان الأشياء إلى تحف، وهنا مربط الفرس ورأس الرهان، في ضرورة وجود مدارس سياسية حقيقية ونشاط سياسي واقتصادي فعال.
لقد تأملت اليوم والجزائر تبحث عن نخب وكفاءات أن هناك حلقة مفقودة وبشدة، وهي أننا نملك أحزابا من دون حياة سياسية ولدينا نخب من دون تأطير أو مشروع وأن الجمود وعدم تحمُّل المسؤولية هما سيدا الموقف، وأن على النظام وحده أن يفكر في مستقبل مجتمع مستقيل من الطرح البنّاء والملاحظة الصحيحة العقلانية، والنشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يحلّ مشكلات المجتمع ولا يتركها فقط في يد قوى ومراكز وغرف مغلقة تفكّر فقط في مستوى ما تراه هي لا ما يراه الجميع.
لقد فهم العالم المتقدم عبثية الديموقراطية التشتتية ودينامياتها وأنتج أنظمة سياسية تركز على المخرجات لا الأطر ولأن النموذج الأنجلو- سكسوني كان فاعلاً فقد أنتج حزب العمال والمحافظين والجمهوريين والديمقراطيين في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة سيمفونية عن عملية سياسية قوية يتبارى فيها المتنافسون بالبرامج والأداء والنتائج، وكل مرة يصل قائدٌ من صلب العملية ليتحمل إدارة الملفات المعقدة وسط حالة النقد والمحاسبة ويؤدي ما عليه لبلده وشعبه ويخرج من الباب الضيق كلما أدّت سياساته إلى ضعف أداء أو إقناع، لكن الأهم في هذا هو وجود قيادات ظل وحكومات ظل ونخب ظل تنشط في الخفاء والعلن لتحقق المصالح الإستراتيجية لبلدانها سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا وإيديولوجيا، ولكن البارز هنا هو في فاعليتها في القضاء على نموذج التشتت والتشرذم واعتمادها نظام الاستخلاف السياسي والمنافسة على الدور والمسؤولية.
في الزاوية الأخرى، نحن أمام الكثافة السياسية في الصين وفيتنام وهما الدولتان التي تصنعان تحوُّلات اقتصادية كبرى رغم أنهما بلدان لا يزالان شيوعيين سياسيا بحزب واحد ولكنهما ليبيراليان اقتصاديا، وهو ما حدا بالكاتب السوري سمير سعيفان لكتابة كتاب “التجربة الاقتصادية الصينية: حزب شيوعي يبني اقتصادا رأسماليا”، فقد نجح النموذج الذي ضبط المنظومة السياسية بالنهج الأوحد من خلال فكر الطبقات السياسية والنخب التقنوقراطية التي وضعت قدراتها العلمية والفكرية والسياسية في صلب المشروع الخماسي الصيني النهضوي بعيدا عن الغوغائية أو العبثية في جعل الصين اليوم المارد الأبرز والأكثر تهديدا للهيمنة الأمريكية، فالمشكلة هي مشكلة أداء منضبط وليس ديموقراطية منفتحة وليبيرالية على مقاس الاختراق الغربي.
إنّ هذه النماذج الهامة تدعونا بشكل حثيث إلى إعادة هيكلة الحياة السياسية وبناء ديناميات فاعلة تنتح نخبا جديدة وديناميكية لصالح المشروع الوطني المستدام وتضمن توفر الكفاءات الوطنية التنفيذية من خلال حكومة ولجان الظل التي تتكون من ألمع العقول المحلية أو من الدياسبورا المتخصّصة في المالية والتعليم والصناعة والتجارة والصحة والعلوم… وغيرها وتكون هذه اللجان قوى نقد بنّاء للقطاعات العمومية لتقييمها وتقويمها، واستغلال فرصة التشخيص والمتابعة للتحضر لتقلد المسوؤلية وإصلاح الاختلالات من منطلق سياسي تقنوقراطي منهجي، مع التخلّص من الطفيليات السياسية غير الديناميكية بعتبة الانتخابات والتصريح الدوري بحجم المناضلين والنشاطات السياسية لتحفيز الحياة السياسية وبناء منظومة حزبية ثنائية أو ثلاثية الأبعاد تجمع التشتت السياسي وتؤطر المنظومة، مع التخلص من النموذج التقليدي المستنزف سياسيّا بالمنظومات الملفقة السابقة وتجديد النموذج السياسي بحزبين متجذرين متنافسين وقويين قادرين على تشكيل فسيفساء من طبقات ونخب مختلفة تتنافس على إنتاج البرامج والنخب المؤهّلة علميا والمكونة سياسيا على تحمل وتقلد المسؤوليات وحماية مستقبل الشعب والبلاد.