ضرورة تكريس الديمقراطية داخل الأحزاب في الجزائر

فرضت التحديات السياسية الراهنة، ضرورة إعادة النظر وتحيين بعض القوانين، والعمل على تكييفها مع المستجدات والتحولات التي يشهدها العالم اليوم. ومن بين هذه القوانين هناك مشروع القانون العضوي المتعلق بالأحزاب السياسية، الذي تضمنت مسودته بعض التعديلات المهمة، وجب تثمينها وفي الوقت نفسه إثراؤها، لتعزيز قوة الطبقة السياسية والجبهة الداخلية، وبعث النشاط في المشهد السياسي.
من هذا المنطلق رأيت أنه من واجبي كمواطن جزائري قبل كل شيء، ونائب برلماني أسبق عن الجالية الجزائرية بأمريكا، وآسيا وأوقيانوسيا، المساهمة في إثراء هذا المشروع ببعض المقترحات التي أتصور أنها مهمة بل وضرورية، لبناء أحزاب قوية خلال المرحلة المقبلة…
إن تكريس الديمقراطية الحقيقية، بمفهومها المطلق، يبدأ من ترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص في الممارسة السياسية داخل الأحزاب السياسية نفسها، من خلال فتح باب الترشح للمواعيد الانتخابية بما فيها الاستحقاقات الرئاسية أمام كوادر هذه الأحزاب وكفاءاتها من دون إقصاء أو تهميش أو تمييز، بمعنى، ألا تبقى هذه الفرصة حكرا على قادة الأحزاب، الذين وإن أرادوا بدورهم الترشح لهذه الانتخابات المهمة فلهم ذلك، شريطة أن يتخلوا عن قيادة أحزابهم، ويبادروا إلى الاستقالة من رئاسته إن ثبُتت النية لديهم للترشح للانتخابات.
هكذا يمكن بناء أحزاب قوية وفعالة وذات تأثير في المشهد السياسي، أحزاب ليست مجحفة في حق كفاءاتها، وتتكافأ فيها الفرص، وتتساوى فيها الحظوظ في الترشح للمواعيد الانتخابية المهمة في الجزائر، ومن أجل مصلحة الوطن فليتنافس المتنافسون، هكذا يمكن تكريس الديمقراطية الحقيقية، وهذا ما أثبتته التجارب الرائدة للأحزاب السياسية القوية والمؤثرة في العالم برمته.
تجارب رائدة
إن إتاحة الفرصة أمام الكوادر والكفاءات وكل الأعضاء النشطين والفاعلين داخل الأحزاب، وعدم تقييد طموحاتهم السياسية مهما كانت، بما فيها الترشح للرئاسيات، سيعزز لا محالة روح المنافسة بين أعضاء الأحزاب، ويجعلهم أكثر حرصا على تكثيف نشاطهم وتقديم الأفضل، والاجتهاد لتحقيق التميز في المشهد السياسي، بطرح الأفكار البناءة وتقديم الحلول الناجعة للقضايا والانشغالات المطروحة، وكذا العمل على حشد الكثير من الأعضاء عبر الولايات لتعزيز القاعدة الشعبية لأحزابهم، وسيقود هذا بالضرورة إلى تعزيز قوة الأحزاب التي ينتمون إليها وثقلها في الساحة السياسية.
وفي تصوري، فإن الإقدام على هذه الخطوة، كفيلٌ بحظر التجوال السياسي الذي تضمّنه نص المشروع التمهيدي لقانون الأحزاب، بل هو الحل الأمثل لتثبيت الأعضاء داخل أحزابهم، علما أنه من أهم الدوافع المؤدية إلى تغيير الانتماء السياسي لأعضاء الأحزاب، ومغادرتها لإنشاء أحزاب جديدة، هو غياب الحوافز المشجِّعة، ويأتي في مقدمتها حق الترشح، الذي يعتبر أيضا من بين أهم الأسباب التي تقف وراء ضعف أداء الأحزاب وجمود النشاط والحيوية فيها.
في حين أن مهمة رؤساء الأحزاب في هذه الحالة، يجب أن تكون سياسية وتنظيمية وإدارية بحتة، فرئيس الحزب هو الذي يسهر على ضمان السير الحسن للحزب. وهنا لا بد من استحضار التجربة الأمريكية باعتبارها رائدة، إذ أن كل رؤساء الولايات المتحدة، لم يكونوا قطّ قادة في الأحزاب التي ينتمون إليها، بل أعضاء إما في الحزب الديموقراطي أو في الحزب الجمهوري، جرى انتخابهم على مستوى الحزب أولا، ثم على مستوى الوطن ثانيا، فالرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، الذي انتُخب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية للمرة الثانية، وفي فترتين مختلفتين بطريقة ديمقراطية، لم يكن رئيسا للحزب الجمهوري الذي ترشَّح عنه، بل إن حزبه هو من رشحه، لنشاطه الدؤوب والمكثف داخل الحزب، وأيضا لنجاحه في حشد الكثير من الأعضاء، والأمر ذاته حدث مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي كان عضوا في الحزب الديمقراطي، وعرف كيف يقنع حزبه ليكون مرشح الديمقراطيين المفضل في الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها، وقبله الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية، باراك أوباما، الذي ترشح عن الحزب الديمقراطي ولم يكن رئيسا لهذا الحزب، الذي اختاره لخوض الانتخابات الرئاسية لتميزه بأسلوب الإقناع وتقديم الحلول لمشاكل اجتماعية جوهرية، منها توفير الرعاية الصحية للجميع، وأيضا لمقترحاته المتعلقة بخفض الرسوم الضريبية، وتطوير الطاقة النظيفة، بمعنى أن اختيار مرشحي الأحزاب للاستحقاقات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، يكون على أساس قدرات الأعضاء الفاعلين والناشطين والمؤثرين داخل الأحزاب، أما قادة الأحزاب فمهمّتهم تختلف هنا، فإلى جانب الدور السياسي لديهم مهام أساسية أخرى الشؤون التنظيمية والإدارية، هكذا صنعت الأحزاب السياسية رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية.
دور رئيس الحزب في أمريكا
تقوم الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية في المواعيد الرئاسية، بتنظيم انتخابات تمهيدية ومؤتمرات حزبية وتنشيط تجمعات شعبية عبر الولايات بغرض اختيار مرشح الحزب لمنصب الرئيس، أما رئيس الحزب هنا، فما هو إلا منظِّم ومشرف على العملية الانتخابية. وفي المرحلة الأولى يظهر الراغبون في الترشح، ويسهرون على حشد التأييد لأنفسهم لدى أنصارهم في الحزب، سعيا منهم للحصول على ضمانات، وإذا رأوا أنهم يتمتعون بتأييد كبير يمكنهم لخوض الانتخابات، وفي هذه الحالة، يخبرون السلطات العليا باعتزامهم الترشح، لتأتي بعد ذلك عمليات جمع الأموال وخوض سباق الانتخابات بين الأحزاب، ثم تأتي المرحلة الثانية، التي يُختار فيها مرشح الحزب الذي سيخوض الانتخابات الرئاسية أمام نظرائهم في الأحزاب المنافسة، إذ يتعين على الناخبين المؤيدين لأحد الأحزاب السياسية، أن يختاروا مرشح الحزب من بين عدد من مرشحي هذا الحزب، وهي الطريقة نفسها التي تعتمدها أيضا التجربة الكندية، فعلى سبيل المثال، عندما قرر رئيس الوزراء جاستين ترودو الاستقالة وعدم تجديد عهدته، سارع كل أعضاء الأحزاب المنافسة، بما فيها الحزب الذي ينتمي إليه، إلى استعراض جدارتهم السياسية وقدراتهم على القيادة، التي انعكست إيجابا على أداء أحزابهم ونشاطها وفاعليتها، ورفعت مستوى المنافسة بينهم إلى السقف.
التجربة الإنجليزية والتجربة الفرنسية
لا تختلف التجربة الحزبية في إنجلترا عما هو سائد في الولايات المتحدة الأمريكية، فأغلب رؤساء الوزراء رشّحتهم أحزابهم التي ينتمون إليها وينشطون فيها، سواء تعلق الأمر بحزب العمال أو حزب المحافظين، البارزين، بل إن الأمر امتد إلى الحزب الليبرالي وحتى حزب الأحرار، لمدة رئاسية أقصرها 27 يوما وأطولها 20 سنة.
الأمر ذاته يحدث في فرنسا التي تعتمد بدورها هذا الأسلوب، إذ لم يكن معظم رؤساء فرنسا قادة في أحزاب، بل كانوا أعضاء إما في أحزاب يمينية أو يسارية أو معتدلة، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مثلا، لم يكن رئيسا لحزبه بل كان عضوا نشطا وفعّالا ومتمكّنا من عدة ملفات اقتصادية واجتماعية حساسة، كان هذا أهمَّ عامل لترشيح حزبه له رغم صغر سنه.
من الضروري فسح المجال أمام الأعضاء البارزين داخل الأحزاب للترشح لكل المواعيد الانتخابية، حتى لا تبقى حكرا على قادة الأحزاب على حساب كفاءاتها وكوادرها وأعضائها الفاعلين، كما هو الحال في كل الدول الديمقراطية والمتقدمة التي تمنح الفرصة للمناضلات والمناضلين، ممن لديهن ولديهم قبول شعبي وأفكار وحلول لقضايا اجتماعية واقتصادية مطروحة، ويقدمون إضافة لأحزابهم، ويمتلكون حس القيادة ويتميزون بالحنكة السياسية على البروز في الساحة.
وقبله أيضا الرئيس فرنسوا هولاند، الذي لم يترشح لرئاسة فرنسا عندما كان قائدا للحزب الاشتراكي خلال الفترة الممتدة ما بين 1997 و2008، بل ترشَّح عندما أصبح عضوا في الحزب ذاته وفاز وقتها برئاسيات 2012، وربما الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي هو من صنع الاستثناء عندما ترشح عن حزب الإتحاد من أجل حركة شعبية سنة 2007، الذي كان زعيما له، لكن هذا لم يمنع من ترشح أسماء أخرى بارزة في الحزب الذي ينتمي إليه، وقد عاد ساركوزي لقيادة الحزب بعد خسارته عهدة رئاسية ثانية سنة 2017. أما الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، فقد فاز برئاسة فرنسا في 1995 وهو عضو في حزب الإتحاد من أجل حركة شعبية وليس رئيسا لهذا الحزب، وقبله فرنسوا ميتران، الذي كان مرشح الحزب الاشتراكي سنة 1981، وفاز بالانتخابات الرئاسية حينها عندما كان عضوا قياديا فيه والأمثلة كثيرة…
ضرورة سن هذا القانون
بعد استعراض كل هذه التجارب السياسية الناجحة، يتبين مدى حاجة الجزائر إلى سن قوانين تساهم في تنشيط المشهد السياسي في البلاد، وتبعث الحركية داخل الأحزاب حتى تخرجها من حالة الرتابة والفشل التي تعاني منها اليوم، وتجعلها قادرة على خدمة المصلحة العليا للوطن، ومجابهة التحديات الخارجية وكسب رهاناتها، إذ لا يمكن بلوغ هذه الأهداف الإستراتيجية بطبقة سياسية ضعيفة وجبهة داخلية هشة، وعليه بات من الضروري فسح المجال أمام الأعضاء البارزين داخل الأحزاب للترشح لكل المواعيد الانتخابية من دون استثناء، حتى لا تبقى هذه المواعيد المهمة حكرا على قادة الأحزاب على حساب كفاءاتها وكوادرها وأعضائها الفاعلين، كما هو الحال في كل الدول الديمقراطية والمتقدمة التي تمنح الفرصة للمناضلات والمناضلين، ممن لديهن ولديهم قبول شعبي وأفكار وحلول لقضايا اجتماعية واقتصادية مطروحة، ويقدمون إضافة لأحزابهم، ويمتلكون حس القيادة ويتميزون بالحنكة السياسية على البروز في الساحة، ما يؤهلهم للترشح في الانتخابات والفوز بها، أما رؤساء الأحزاب، فهم مطالبون بالتسيير الحسن لأحزابهم، والسهر على ضمان الاستقرار والنشاط المتواصل فيها، هذا هو دورهم وهذه هي مهامهم…وفي حال رغبوا في الترشح، عليهم أن يستقيلوا من رئاسة الحزب، ويستحسن في هذه الحالة أن تكون مقيدة بفترة زمنية محددة.
تشجيع المنافسة لتحقيق الريادة
إن قوة الأحزاب السياسية وفاعليتها، مرهونٌ بمدى نشاط مناضلاتها ومناضليها، وتأثيرهم في الحياة السياسية والشعبية، وعليه لا بد من تشجيع المنافسة بين المناضلات والمناضلين داخل كل الأحزاب السياسية، لبلوغ الريادة وتحقيق طموحاتهم السياسية، لأن هذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز قوة الحزب والرفع من مستوى أدائه، وترسيخ حضوره في المشهد السياسي، حتى لا يتوقف النشاط السياسي والحزبي على المواعيد الانتخابية والمناسبات فقط، فنشاط أعضاء الحزب يجب أن يكون على مدار السنة وفي كل سنة.
الترشح حقٌّ مشروع للجميع
وجود النية والرغبة لمناضلي أي حزب سياسي في الترشح للمناصب العليا في الدولة بما فيها منصب رئيس الجمهورية، حق مشروع للجميع؛ فإذا كان الترشح لتولي منصب رئيس الجمهورية متاحا للجميع، فإن المناضل في أي حزب سياسي، سيعمل بكل جد ليثبت كفاءاته العلمية والشخصية والقيادية والسياسية، ويجتهد لتكوين قاعدة شعبية، وسيخلق النشاط في صفوف المناضلين، ففي الأخير، كل مناضل يعمل بجدّ وإخلاص، حتى يعزز فرصه ليكون المرشح الأول لحزبه، مما يزيد من قوة الحزب السياسي، ويساهم في رص صفوفه، هكذا يمكن تعزيز الحركة والنشاط داخل الأحزاب، وتقوية الطبقة السياسية وبناء ديمقراطية على أسس صلبة، كفيلة بتعزيز قوة أحزابنا السياسية، وتنمية علاقتها مع السلطة كشريك من أجل الدفاع عن مصلحة الوطن في الداخل والخارج.