-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
المجاهد محمد بزيان في آخر حوار لـ"الشروق" قبل وفاته:

عجول بريء من دم بن بولعيد… وهكذا هربنا من سجن الكدية

صالح سعودي
  • 5502
  • 0
عجول بريء من دم بن بولعيد… وهكذا هربنا من سجن الكدية
الشروق
المجاهد الراحل محمد بزيان

كان للمجاهد محمد بزيان، الذي يعدُّ أحد الفارّين من سجن الكدية بقسنطينة بقيادة الشهيد مصطفى بن بولعيد، حوارٌ صريح مع “الشروق”، قبل وفاته (لم يُنشر بعد)، إذ تحدّث بقلب مفتوح وسرد أبرز تفاصيل التحضير للهروب من سجن الكدية، مثلما تطرق إلى جوانب من سيرته مع الثورة التحريرية، وأهم المعارك التي شارك فيها، وأعطى في الوقت نفسه رأيه في بعض قيادات الثورة بالأوراس، على غرار الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد وعاجل عجُّول وأمين السر مصطفى بوستة.

تعدّ من الرعيل الأول، فكيف كانت مسيرتك مع الثورة التحريرية؟
أنا من مواليد دوار زلاطو بالأوراس سنة 1933، واكبتُ الثورة من البداية. الثورة كان وراءها حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وكنا مناضلين فيها، نتدرّب بالسلاح الناجم عن مخلفات الحرب العالمية الثانية. وفي أكتوبر 1954 عقدوا اجتماع لقرين جنوب الشمرَّة، حضره أبرز القيادات بالثورة، مثل مصطفى بن بولعيد وشيحاني بشير وعباس لغرور وعاجل عجّول وغيرهم. وقد كتب عاجل عجّول بيان أول نوفمبر بالعربية، أما عبّاس لغرور فقد كتبه بالفرنسية.

ما النقاط التي خرجوا بها خلال هذا الاجتماع؟
اتفقوا على كتم السر، وبعد نحو 8 أو 10 أيام، قالوا لنا إنهم سيعقدون اجتماعا في دشرة أولاد موسى. مجموعتنا لم تلتحق بدشرة أولاد موسى، ووصلت جهة جبال الهارة، وكانت هناك توصياتٌ بأن من لا يلتحق قبل الساعة الثانية عشرة لن يُسمح لهم بالمرور. وقد وصلنا ناحية ثنية بوستة، وانقسمت مجموعتنا إلى فوجين، وتركنا خلفنا كلا من رحماني بلقاسم وعاشوري المكي. مجموعة بقيت في شناورة ومجموعة اتجهت نحو قرية لقصر.

لم تم تقسيم المجموعة؟
قيل لنا في هذه الليلة سنفجِّر الثورة، وقد أحضروا لنا أسلحة ومتفجرات وقنابل من صنع محلي، والقنبلة تم تفجيرها بعلب الكبريت.

ما الخطوة الميدانية التي قمتم بها بعدما تقرر تفجير الثورة؟


قمنا بقطع كوابل الكهرباء والهاتف بقرية لقصر، في الطريق المؤدي إلى تكّوت. وقد انتظرنا اقتراب الساعة الصفر لتنفيذ العلمية، واعتمدنا على الساعة التي جلبناها من الشيخ سي الصادق رحماني، وهو الوحيد الذي كان يملك ساعة يدوية، وكنا لا نحسن التعامل معها باستثناء سلامي لمبارك الذي اعتمدنا عليه في هذه المسألة. ولما حانت الساعة الصفر، قمنا بقطع الكوابل وفجّرنا القنابل بغية تفجير جسر عين البير بتكّوت، وكذلك هاجمنا مصالح الدرك الفرنسي بالمنطقة.

كيف كان رد الإدارة الاستعمارية؟
فوجئنا بمحاولة الدرك الفرنسي المجيء، إذ حضروا إلى مدخل تكّوت، لكنهم هربوا بعد أن تم رميهم بالرصاص من طرف عاشوري المكي وبرحايل محمد أوعباس.

كيف تم القبض عليك بعد العملية الأولى التي قمتم بها خلال تفجير الثورة؟
كنا في مرحلة حذر وابتعاد عن الأنظار، لكن “مشات بينا البيعة”، فتمّ القبض عليها، ونُقلنا إلى سجن تازولت بباتنة ثم إلى سجن قسنطينة. وقد تمت محاكمتنا، أنا وسلامي وبلقاسم أوسماعيل مدوري، فحكموا علينا بالإعدام.

لم تم الحكم بهذا القرار بالذات؟
قيل لنا إن كل من يستهدف مصالح الإدارة الفرنسية أو يقوم بأي عمل ضد فرنسا، فإن مصيره هو الحكم بالإعدام.

كنت من الذين تم تحويلهم إلى سجن الكدية بقسنطينة، فكيف سارت يومياتكم ومحاولتكم من أجل الفرار من هذا السجن؟
عانينا الكثير في هذا السجن، وقد بلغ عددنا نحو 30 شخصا، كلهم محكوم عليهم بالإعدام، وفي مقدمتهم مصطفى بن بولعيد، الذي كان معنا. وقد فكرنا في كيفية الخروج من السجن، وطلب منا بن بولعيد أن يعطي كل واحد رأيه ونظرته. وقد اهتدينا إلى رأي حجاج بشير الذي أصله من الخروب، بحكم أنه سبق له أن سُجن في الكدية بقسنطينة، ويعرف بعض خبايا وخفايا وتفاصيل هذا السجن وتموقعه وتركيبته، فأعطى لنا نظرته ورؤيته في هذا الجانب. وقال إن هناك مخزَنا بجانبنا ولا يفتحونه دائما. وعليه، يمكن الحفر من جهته، حتى لا ينتبهوا إلينا. وقد اتفقنا على الشروع في الحفر، والباب موجه إلى القبلة، ولما يدخلون الساحة نتوقف.

كيف تمت عملية الحفر؟
تمّت بأدوات بسيطة، إذ اهتدينا إلى مزلاج النافذة الذي وظفناه في عملية الحفر، دون أن نترك أثرا قد يتسبب في انتباه حراس السجن، وكنا نحرص على عجن الصابون مع التراب ثم رميه في المرحاض، خاصة أن الماء موجود بشكل دائم، ما سهَّل لنا المهمة لمواصلة وضع التراب والخرسانة بعد تذويبها برميها في المرحاض متجهة نجو مياه الصرف الصحي. وبعد جهدٍ متواصل، وصلنا إلى منطقة مثلثة، فاقتلعنا قطعة الخرسانة. حدث ذلك بعد 12 يوما، إذ وضعنا القطعة الحديدية في كيس من الحَلفاء. ومثلما قال لنا حجاج بشير، فقد أثمرت جهودنا في الحفر بالوصول إلى الغرفة المجاورة، واستغللنا الأدوات المتاحة من أجل صنع حبال ربطناها ببعض الأدوات المهمَلة حتى يتسنى لنا تسلق الأسوار والفرار من السجن. وقد كانت لنا إطلالة على الطريق المحاذي للسجن، حتى نأخذ نظرة عن موقعه، وبعد ذلك أدينا صلاة الظهر وأجرينا القرعة مع مراعاة الأشخاص والنواحي التي ينتمون إليها مثل سمندو وسوق أهراس والأوراس.

ما نقاط الاتفاق التي خرجتم بها بخصوص عملية القرعة؟
اتفقنا على أن مصطفى بن بولعيد لا يخضع للقرعة، بل هو أوَّل من يخرج، ويجب أن نحرص على خروجه وسلامته، حتى لا يكون في متناول الإدارة الفرنسية. وقد خرجنا بعد وضع السلالم في الحبال. كان ذلك على الساعة الخامسة والنصف مساء، من يوم 10 نوفمبر 1955. وقد قال لنا بن بولعيد: “ستخرجون جميعا بإذن الله”، وطلب منا الحيطة والحذر بعد عملية الفرار، من خلال الاتجاه نحو الجبال، لكن نحن لا نعرف المنطقة، ورغم ذلك، حاولنا تطبيق نصائحه وتوجيهاته. علما أن الذين فرّوا من السجن هم أنا محمد بزيان، مصطفى بن بولعيد، الطاهر زبيري، مشري لخضر، بوشمال أحمد، العيفة عمر، كرومة حمادي، عريف حسين، حفطاري علي.

كيف كان ردُّ الإدارة الاستعمارية بعد سماعها بخبر فراركم؟
قامت بوضع الأضواء الكاشفة، وأخرجت الشاحنات للبحث عنا، في الوقت الذي عملنا على قطع الطريق والهروب بعيدا عبر المسالك الوعرة.

أين توجهتم بعد نجاحكم في عملية الفرار؟
سرت حافي القدمين عبر “الشعبة” التي كانت تسير فيها المياه، ثم توجهت رفقة زايدي سليمان نحو منطقة العثمانية، واختبأنا في منتصف الطريق. وتناولنا الطعام عند أحد المواطنين، حيث أكلنا الكسكسي والكسرة، وبعد ذلك، سألَنا عن وجهتنا، فقلنا له نريد الذهاب إلى عنابة أو سكيكدة من أجل العمل، فكان رده بالقول: “واش تخدموا.. الطماطم خلاص وقتها”، بعد ذلك، لجأنا إلى القرارم وميلة والميلية، والتقينا هناك بكل من بن طوبال وبوبنيدر، واستقبلانا مدة 7 أيام، ثم واصلنا إلى زيغود يوسف بنواحي سمندو سكيكدة. وقد تكفل هذا الأخير بتحويلنا نحو صحراء النمامشة ثم كيمل بالأوراس.

هل واجهتم صعوبات خلال علمية الفرار إلى غاية وصولكم إلى الولاية الأولى التاريخية؟


المهمة كانت صعبة جدا، خاصة حين غاب عنا الدليل، ما تسبّب في القبض علينا من طرف بعض المناضلين الذين ظنوا أننا وشاة، بمن في ذلك الطاهر زبيري، وبحكم أننا لم نعرف هويتهم مثلما لم يعرفوا هويتنا، فقد قلنا لهم: “الدراهم يفرغو والتاريخ ما يفرغش”. وقد تدخّل بعض أفراد جيش التحرير الوطني، الذين أفرجوا عنّا ومكّنونا من مواصلة السير نحو زيغود يوسف الذي سهّل لنا المهمة في ما بعد، للعودة إلى مناطقنا، بحكم أننا ننتمي إلى جهة الأوراس، مثل حالتي أنا وطايري إبراهيم وزايدي سليمان وبوشمال وغيرهم. في حين حوِّل المنتمون إلى الشمال القسنطيني نحو وجهتهم أيضا. وقد افترقنا في عيون الدهان غير بعيد عن منطقة وادي زناتي. أما نحن، فقد اتجهنا إلى صحراء النمامشة وكيمل، حيث التقينا عباس لغرور وسيدي حني، ودام السير 20 يوما كاملة، للوصول إلى الأوراس.

هناك من علّق بالقول إن “سجن الكدية ماهوش كرطون”، ردًّا على عملية فراركم، ما رأيك؟
عند اكتشاف عملية الهروب والفرار، تمت محاكمة القائمين على السجن، وحُكم ببراءتهم، لأنهم تأكدوا من كون علمية الفرار لم تتم بتواطؤ من طرف حراس السجن والقائمين عليه، وهو دليلٌ على أن فرارنا من السجن كان بفضل جهودنا الجماعية، التي كُلِّلت بنجاح هذه العملية. وقد رجعتُ مرتين إلى سجن قسنطينة، المرة الأولى بمعية صحفي التلفزيون ربيع دعاس ثم عدت منذ عامين (يقصد سنة 2018 أو 2019) وقد وجدنا أسماءنا في جدار السجن وحظينا باستقبال حارّ من الجميع.

كيف كانت بقيَّـة مسيرتك الثورية بعد الهروب من سجن الكُدية؟
واصلتُ الجهاد حتى الاستقلال، ولم يتم القبض عليّ، لكن أصبت في معركة برباقة بوادي الطاقة بباتنة التي دامت يوما كاملا، وتم إسعافي وعلاجي في مستشفى الولاية الأولى بنواحي كيمل من طرف سي محفوظ ومحمود عثامنة. كما خضت ثلاث معارك ضد قوات الحلف الأطلسي، وكانت معارك شرسة دامت كل واحدة منها يوما كاملا، واحدة منها بنواحي شيليا واثنتان في منطقة وادي عبدي. وقد اهتدينا إلى وضع “الترانشيات” مع الاقتصاد في الذخيرة في ظل صعوبة الحصول عليها.

كيف تصف لنا شخصية مصطفى بن بولعيد؟
بن بولعيد إنسانٌ وطني ومرتاح ماديا، بدليل أن لديه ضيعتين واسعتين في فم الطوب وتازولت، وكذلك يملك حافلات، كما تنقّل إلى فرنسا وكان له اطلاعٌ على وضعية شعبه ووضعية الشعوب الأخرى، فوصل إلى قناعة بضرورة إشعال فتيل الثورة من أجل نيل الاستقلال والتخلص من القهر والاضطهاد والاستبداد الذي عانى منه الشعب الجزائري. وقد عرفته قبل السجن، لكن من بعيد، فقد كان شخصية بارزة، بدليل أنه ترشَّح للانتخابات نهاية الأربعينيات.

ماذا تقول عما اصطلح عليه بـ”التشويش” في الأوراس؟
هذه قضية سياسية، حدث الذي حدث، وهذا مشكلٌ داخلي وقع بين الموالين لجيش التحرير والموالين للجبهة، إذ عانى الأوراس وتأثر كثيرا من هذا الصراع، لكن رغم ذلك، فقد تواصل الجهاد ضد فرنسا ونلنا الاستقلال.

ماذا تقول عن شخصية عجُّول ومصطفى بوستة؟
لهما دورٌ كبير في إشعال الثورة بالأوراس، فهما مصدر ثقة الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد. عجّول رجلٌ عظيم وساهم في تكوين مناضلين قدَّموا الكثير مثل محمد بيوش، لخضر بن مسعود، عثمان كعباشي، لخضر بن لخضر، الصادق بن لخضر، بونخل، محمد جرمون، أعرفهم جيدا، وهنا أتذكر أيضا مناضلي عرش التوابة الذين برزوا من عدة عائلات مثل بن شايبة وبن عكشة وطورش ورابحي وبولقواس والقائمة طويلة. أما مصطفى بوستة، فقد كان سياسيا قبل الثورة، وغاب عن الأنظار مدة 10 سنوات دون أن يظهر له أثر مع “المير” أو البلدية، وقد كانوا يبحثون عنه من حين إلى آخر ويحرصون على متابعة مستجداته، لأنهم كانوا على علم بدوره في الحركة الوطنية والتحضير للثورة التحريرية. وهو الذي ساهم في تفعيل علمية النضال بمنطقة تكّوت وما جاورها.

ما رأيك في محتوى فيلم بن بولعيد، بحكم أنك شاهد على عملية الفرار من سجن الكدية؟
فيلم بن بولعيد “فيه الناقص وفيه الزايد”، إذ لم نكن نملك تلك الإمكانات التي أظهرها الممثّلون، وفي الوقت نفسه فقد سلط الفيلم الضوء على عدة نقاط مهمة في تاريخ الشهيد بن بولعيد ومساره في تفجير الثورة التحريرية.

ما رأيك في اتهام عجّول باغتيال بن بولعيد؟
عجّول بطلٌ كبير، هذا هو الواقع، يستحيل أن يتسبب في اغتيال بن بولعيد. ما حدث في الأوراس شيءٌ مؤلم، خاصة وأنه تم تصفية قيادات الثورة بالأوراس بسبب صراعات كبيرة، إذ إنه قبل مؤتمر الصومام كان جيش التحرير الوطني المنبثق عن حركة انتصار الحريات الديمقراطية، مع مزج جميع الأحزاب تحت لواء جبهة التحرير الوطني بغية توظيف الجهود لنيل الاستقلال، لكن بعد ذلك، حدثت أمورٌ أخرى أثرت على الثورة في الأوراس بالخصوص، لكن- الحمد لله- نالت الجزائر استقلالها، وهي الثورة التي بدأت بشعار “الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية” وبكلمة السر “طارق وعقبة”.

ما الرسالة التي توجّهها إلى الشباب في الأخير؟
أقول لهم: حافظوا على ثورة المليون ونصف المليون شهيد، فالمعجزات حققتها ثورة 54، وما يجب أن يقوموا به هو أن يحافظوا على نعمة الاستقلال والحرص على خدمة الوطن وحمايته من كل التحرشات مهما كان نوعها، بمقدورنا أن نأكل الحشيش ولا نجعل بلادنا مرهونة بالديون أو ما شابه ذلك، على الجميع التحلي بالوعي والحرص على خدمة الوطن والحفاظ عليه، لأن الاستقلال كلف فاتورة غالية هي مليون ونصف مليون شهيد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!