عرفات.. المكان الذي يجمع شتات المسلمين

شتات الموقف العربي والإسلامي واقع لا جدال فيه، وهو أمر من كسب أيدينا قبل أن يكون مؤامرة استعمارية، فقبل قرون وعلى عهد قريب من النبوة والخلافة الراشدة، كان العرب والمسلمون جسدا واحدا وإن ناءت ديارهم، كان الحكام المسلمون يديرون شؤون الرعية في أقاليمهم ولكنهم يظلون على تواصل مع إخوانهم في الأقاليم الأخرى، كانت البصرة تتألم لما يحدث في بغداد وكانت بغداد تتألم لما يحدث في دمشق وكان المسلمون في ذلك الوقت من حيث وحدة الموقف كما جاء في الحديث النبوي الذي أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:“مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى“.
كان هذا الموقف واجبا شرعيا وفريضة قومية وشكلا من أشكال الاتحاد في مواجهة مشكلات الحياة وفي مواجهة التحديات التي تعترض المسلمين والتي تستدعي اجتماعهم، لأن في اجتماعهم قوة وفي تشتتهم ثغرة، يتسلل منها المتآمرون ليُضعفوهم وليجعلوا منهم أوزاعا، يسهل القضاء عليها كما قال الشاعر: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسُّرا وإذا تفرّقن تكسرت آحادا“.
بدأت المؤامرة على الأمة الإسلامية منذ أمد بعيد واكتملت حلقاتها بسقوط بغداد، ولم تحل لحظة سقوط آخر معقل من معاقل المسلمين في الأندلس إلا والأمة الإسلامية شذر مذر لا تلتقي أطرافها، ولا تجتمع كلمتها حتى أصبح الشرق شرقا والغرب غربا وكأن مقولة الشاعر الإنجليزي رودريارد كيبلنغ قد انطلت عليها: “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا“.
كان روديارد يستشرف الفصام بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي وقد حدث ذلك وازداد الشرخ إلى درجة توسعت فيها دائرة الصراع الدموي إلى حد لم يعد معه أمل في الوفاق، قد يكون هذا طبيعيا بين كيانين مختلفين تاريخيا وعقديا وأيديولوجيا وسياسيا، ولكنه ليس طبيعيا بين كيانين هما في الأصل كيان واحد وبين أمتين هما في المبدأ أمة واحدة، لقد هدمت عرى الاتحاد بين أبناء هذه الأمة واختار كل فريق مسارا مختلفا واختفت الصورة الجميلة التي رسمها الله سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية في القرآن الكريم: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون“ (الأنبياء 92).
على هذا النحو البائس أصبح حال الأمة الإسلامية، تجمعها عقيدة التوحيد وتفرقها المواقف السياسية، حتى القمم العربية لم تعد وسيلة للمّ الشمل بل وسيلة للتراشق السياسي في عالم مضطرب وإقليم ملتهب وتحرش صهيوني بالبلدان العربية والإسلامية واحدة تلو الأخرى.
هذا وصفٌ عامّ لحال الأمة الإسلامية الذي تحدّث عنه كثيرٌ من المؤرخين وهو حال غير قابل للتحول إلا بشروط أغلبها غير قابل للتحقق في ظل اتساع الهوة بين مكونات هذه الأمة وفي ظل العمل التفكيكي الذي تقوم به الصهيونية العالمية التي ليست من مصلحتها ومصلحة من تعمل له أن تستعيد الأمة الإسلامية عافيتها وتجمع شتاتها وتوحِّد صفوفها لأن في ذلك خطرا عليها وعلى وجودها ونسفا لآمالها التي بدأت من “بازل” وانتشرت بعد ذلك في كل أنحاء العالم.
ليس من التشاؤم في ضوء ما أشرت إليه القول إنه لم يعد للأمة الإسلامية فرصة لجمع الشتات إلا في مكان واحد شاء الله أن يبقى معلما هاديا يمكن أن يعيد الأمة الإسلامية إلى سالف عهدها إذا صدقت النيات وهو عرفات لسرٍّ أودعه الله في هذا المكان الطاهر الذي يأتيه الناس من كل حدب وصوب. لقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يبقي لهذه الأمة حتى في حالات تقهقرها حبلا من الله يمكن أن يعيد توحيدها ويجمع كلمتها ما تمسكت به واتخذته منطلقا لإعادة ترميم ما هُدم من علاقات المسلمين بعضهم ببعض بسبب المؤامرات الخارجية والصراعات الداخلية.
إن عرفات مشعرٌ عظيم، تتجلى فيه الصورة الحقيقية للمسلمين الذين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. إن اليد هنا لا تعني صناعة العداوات مع الكيانات الأخرى، ولا تعمد الصدام مع الآخر بل تعني تكوين جبهة إسلامية لمواجهة كل التحديات وهذا حق طبيعي لكل أمة وليست الأمة الإسلامية بدعا من ذلك.
في الخطبة التي خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في عرفات ما يلهم الأمة الإسلامية لتتلمس طريقها إلى الوحدة ولتراجع نفسها، وتتدارك أخطاءها في عالم متغير وعصر لا يرحم لا مكان فيها للكيانات المنفردة والمنعزلة والضعيفة التي تزول لأول وهلة وتتلاشى عند أول مواجهة، فليت المسلمين يتخذون من هذه الخطبة النبوية قدوة في سعيهم لإعادة رص صفوفهم واستعادة هيبتهم. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: “أي يوم أعظم حرمة؟ قالوا: يومنا هذا، قال فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: شهرنا هذا، قال فأي بلد أعظم حرمة؟ فقالوا: بلدنا هذا، فقال إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، هل بلّغت، قالوا : نعم، قال: اللهم اشهد“ (رواه مسلم).
لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة على حرمات ثلاث وهي، حرمة اليوم أي يوم النحر وحرمة الشهر وحرمة البلد الحرام، ورتب على هذه الحرمات، حرمة الدماء وحرمة الأموال، وهذه الحرمات تحتِّم على الأمة الإسلامية اليوم أن تلتزم بها فعلا لا قولا واقتداء لا ادِّعاء، وفي ضوئها تعمل على إطفاء نار الفتنة التي قد تنشب بين الدول الإسلامية وتبادر إلى وقف الحروب الداخلية التي تنخر جسد الأمة وتضعفها وتقوي خصومها، ينبغي أن تتضافر جهود الدول الإسلامية لوقف النزيف في السودان وليبيا وغيرها في العالم العربي والإسلامي؛ فإصلاح الشأن الداخلي مقدَّم على أي عمل سياسي أو دبلوماسي مع العالم الخارجي.
من التوجيهات التي نستلهمها من وقفة عرفات أن لا ينخرط المسلمون في الدعاية الإعلامية المضللة التي تتولى كبرها الصهيونية العالمية وبعض الدوائر الغربية والتي تستهدف البلد لحرام الذي سيبقى -شئنا أم أبينا- قبلة المسلمين التي منها المبتدأ وإليها المنتهى، القبلة التي ارتضاها الله لنا، فإن نحن زهدنا فيها أو جارينا الأبواق التي تستهدفها كنّا كمن يخربون بيوتهم بأيديهم ويسلّمون رقابهم لعدوهم.
من مظاهر الإيمان في عرفات أن ترقّ نفوس المؤمنين وهذا مرغوب في هذا اليوم المشهود، ولكن من مظاهر الإيمان أيضا أن تجتمع كلمة المسلمين، وأن تتحقق الوحدة الإسلامية لأنه من غير المقبول أن تجمعنا عقيدة التوحيد ولا تكون هذه العقيدة سبيلا لإقامة الوحدة بين مكونات هذه الأمة. إن تسارع الأحداث والمستجدات على الساحة العربية والإسلامية تحتِّم على الأمة الإسلامية أن تجعل من عرفات فرصة للتآلف الإسلامي الذي تحوَّل إلى عملة نادرة في هذا الزمان.
إن الدولة الوطنية والقُطرية ليست عائقا أمام الوحدة الإسلامية كما يزعم بعض المحللين، فليس المهم أن تجتمع الجغرافيا بل المهم أن تجتمع المواقف، فقد كانت هناك تجربة للوحدة بين مصر وسوريا في 22 فيفري 1958، فيما يسمى “الجمهورية العربية المتحدة“، التي صمدت مدة ثم عاد كل قُطر كما كان بسبب الحدث السياسي الذي حدث في سوريا في 28 سبتمبر 196. كانت مبادرة الوحدة بين مصر وسوريا خطوة على طريق الوحدة العربية، ولكن بعودة الأمور إلى سابق عهدها تأثرت الجبهة العربية وتعثرت ولكنها لم تفقد الأمل في وحدة عربية شاملة ومأمولة وما ذلك على الله بعزيز، إن الشّتات العربي والإسلامي ليس قدرا حتميا فقد يتغير حالنا ونعود كما كنا أمة واحدة كما قال الشاعر:
قد يجمع الله الشتيتين بعدما ظنا كل الظن أن لا تلاقيا
أختم هذا المقال بما صح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، لما رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيئون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيىء قدير“.
اللهم بلِّغنا بلدك الحرام وجُد علينا من بركات عرفات، اللهم أصلح ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح آخرتنا التي إليها معادنا، وأحفظ بلدنا وسائر بلاد المسلمين واجمع كلمتنا وكن لنا ولا تكن علينا وأصلح الراعي والرعية، وأبرم لهذه الأمة أمرا رشدا، يعز فيه أولياؤك، ويذل فيه أعداؤك، الله من أرادنا وأراد بلادنا وبلاد المسلمين بشر فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، وأشغله بنفسه، ومن أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بخير فوفقه لكل خير، اللهم خذ بيد المستضعفين وخذ على يد المجرمين المعتدين اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر. آمين.