“عطلة أوت”.. موظفون يتمتعون ومواطنون يتعذبون!

يفضل غالبية المسؤولين والعمال والموظفين، وأصحاب المؤسسات الاقتصادية، الاستفادة من العطلة خلال شهر أوت، استعدادا لدخول اجتماعي ملؤه الحيوية والنشاط، فمظاهر العطلة الجماعية في الكثير من القطاعات الاقتصادية والتجارية والصحية والخدماتية، تتجلى من خلال الركود الواضح في هذه النشاطات والخدمات، وشغور بعض المناصب، والحركة القليلة أوقات العمل المعتادة.
وعلى مدى سنوات طويلة، عجزت الإدارات العمومية والخاصة عن ضبط رزنامة الإجازات الصيفية المتزامنة مع بداية شهر جويلية وإلى غاية منتصف سبتمبر، وتوزيعها بالتناوب بين الموظفين والعمال، وهو ما كان ولا يزال يترك أثره السلبي على العمل والتجارة وقطاع الصحة وغيرها من القطاعات التي يضطر المواطن لخدماتها في حالات الطوارئ، والحالات التي لا تنتظر التأجيل.
ورغم أن الرقمنة ساعدت إلى حد ما في تخفيف عبء المسؤولية في بعض المؤسسات العمومية، كالبلديات ومراكز البريد، إلا أن أثر عطلة “أوت” يتجلى في جوانب كثيرة من الحياة اليومية في المدن، وخاصة تلك الواقعة في بلديات ساحلية، أين يحتاج المصطافين والسياح إلى الكثير من الخدمات الإدارية.
عطلة التجار.. رحلات بحث عن بعض السلع والمواد الغذائية
ومن خلال جولة استطلاعية لـ”الشروق” عبر شوارع وأحياء العاصمة، كانت تقابلنا، في كل مرة، العبارة الشهيرة “كونجي” معلقة على واجهة الكثير من المحلات المغلقة التي قرر أصحابها الذهاب في عطلة تزامنا وموسم الاصطياف.
ولم يختصر تعليق عبارة “مغلق في عطلة”، على محلات ومراكز بيع المنتجات والمواد الغذائية، بل حتى بعض المخابز والقصابات وقاعات الحلاقة، ومحلات بيع الألبسة، علقت ذات العبارة أو كلمة “كونجي” بالفرنسية.
وتسبب ذلك في البحث عن بعض المواد الغذائية أو بعض المنتجات من طرف مواطنين يقطنون منطقة ما، أو حيا شعبيا، ويخوض بعضهم رحلة طويلة للبحث عما يطلبونه، حيث خلف لهم حالة من التذمر، خاصة عند بعض العائلات التي بقيت مضطرة لقضاء العطلة الصفية في بيتها.
ووقفنا على حالات أين أغلقت مراكز تجارية “سوبر ماركت” تقع في منطقة واحدة أو حي واحد، ما تسبب في صعوبة التنقل مشيا من المنزل إلى محلات أو مراكز تقع على مسافة بعيدة لشراء المواد الغذائية.
وفي بعض المخابز بالعاصمة، لحظنا من خلال جولتنا الاستطلاعية، وجوها جديدة لشباب يبدو أنهم عمال مؤقتون استعين بهم خلال شهر أوت الذي ذهب فيه العمال الدائمون لهذه المخابز في عطلة، وهذا الأمر الذي لم يستحسنه بعض الزبائن، خاصة أن مادة الخبز تحتاج إلى نظافة وأشخاص يحترفون هذه المهنة.
والعطلة التي يفضلها أغلب الجزائريين خلال شهر أوت بحثا عن الراحة والاستجمام، والتمتع مع أفراد العائلة بعد فترة طويلة من العمل والنشاط، تركت أثرها في الجانب التجاري، ولو بحجم أقل من السنوات الماضية.
قوانين يضرب بها عرض الحائط
وفي هذا السياق، أكد عصام بدريسي، مدير الديوان بالاتحاد العام للتجار والحرفيين، لـ”الشروق”، أن التاجر أيضا مواطن له حق العطلة الصيفية، خاصة أنه يتعب وينشط طيلة العام، وينشغل عن عائلته بالتجارة، لكن لا أحد ينكر بحسبه، أن هناك من يخالفون القانون، ولا يبالون بخدمة المستهلك، وخاصة إذا تعلق الأمر ببعض الخدمات التجارية مثل المخابز.
وقال إن تدابير قانون تنظيم النشاط التجاري لا يسمح للتجار العاملين في منطقة واحدة، بالاستفادة من عطل الأسبوع والعطل السنوية دفعة واحدة، ويفرض عليهم نظام المناوبة بينهم.
ومن جهته، يرى الأمين العام للكونفدرالية العامة للمؤسسات الجزائرية، محفوظ ميقاتلي، في تصريح لـ”الشروق”، أن أغلب أرباب العمل وأصحاب المؤسسات الاقتصادية والمقاولين، والمستثمرين، أصبحوا يخافون من بعض المشاكل خاصة المتعلقة بالتسويق، ما يحتم عليهم ترك أشخاص يثقون فيهم، ويعوضونهم خلال عطلتهم الصيفية.
ولم ينكر ميقاتلي وجود بعض الركود في الإنتاج والتراجع في المعاملات بسبب عطلة “أوت”، مشيرا إلى أن الرقمية قللت من مشاكل غياب المسؤولين الاقتصاديين عن مناصبهم بسبب العطلة الصيفية، حيث أتاحت لهم التكنولوجيا الجديدة، تتبع بعض المشاريع والصفقات عن بعد ومن حين إلى آخر، وعدم تضييع بعض الفرص المتعلقة بالعمل التي تتخلل العطلة.
متطوعون يخلفون الأئمة في المساجد
وطالت عطلة “أوت” المساجد التي باتت بعضها شبه شاغرة من المصلين، بسبب غياب أئمتها، ودخولهم في عطلة صيفية، حيث رغم إلزامية وجود متطوعين ليحلوا مكان الأئمة، إلا أن تعلق المصلين بصلاة وخطبة إمامهم جعل الكثير منهم يتأخرون في الالتحاق بصفوف الصلاة في بيوت الله.
وفي هذا السياق، قال الأمين العام للتنسيقية الوطنية للأئمة وموظفي الشؤون الدينية والأوقاف، الشيخ جلول حجيمي، لـ”الشروق”، أن وضع المساجد خلال الفترة الصيفية يختلف عن الأيام الأخرى، وذلك في ظل ذهاب الكثير من الأئمة في عطلة، واستخلاف غيابهم بمتطوعين، أو بمعلم قرآن، حيث يتعود بعض المصلين، بحسبه، على حضور الإمام، ويستحبون طريقته في إلقاء خطبة الجمعة، ولا يتقبلون غيابه.
وأكد حجيمي أن أغلب الأئمة يفضلون شهر أوت للذهاب في عطلة، وهذا لأسباب تتعلق بارتباطات عائلية، ولكن هناك من الأئمة من يرفضون أصلا العطلة، موضحا أن استخلاف الأئمة بالمتطوعين أو بأساتذة في الشؤون الدينية أو متقاعدين من قطاع هذا الأخير، يكون بترخيص من إدارة مديريات الشؤون الدينية.
ونفى محدثنا بقاء بعض المساجد شاغرة من الأئمة أو المستخلفين لهم، رغم أنه لا ينكر أن عطلة بعض الأئمة تترك أثرها في المساجد، وتتسبب في تراجع الاستفادة من بعض جلسات الصلح وإصلاح ذات البين، وإقبال المصلين على بيوت الله.
تراجع في الخدمات العمومية
وعبر الكثير من المواطنين لـ”الشروق” عن تذمرهم من غياب بعض الموظفين في مناصب يحتاجونها لخدمات استعجاليه، فعلى غرار البلديات ومراكز البريد، اشتكى هؤلاء من مصالح الضرائب والبنوك، ومكاتب حفظ الأرشيف، حيث عبرت مغتربة جاءت من فرنسا، عن تأسفها لغلق مكتب أحد الموثقين المعروفين بالعاصمة، الذي قصدته لتتحصل على وثيقة تخصها من أرشيفه، فوجدته قد ذهب في عطلة.
وبينما تعطلت مشاغل بعض المواطنين بسبب عطلة أوت التي تقف وراء غلق الكثير من المكاتب، وغياب مسؤولي بعض المصالح الخدماتية، فإن الكثير منهم أصبحوا يتعذبون في طوابير طويلة أمام شبابيك مصالح الحالة المدنية ببعض البلديات، وطوابير مراكز البريد، حيث رغم الرقمنة، والبطاقات الإلكترونية، فإن المشكل لم يحل، وضاعفته عطلة الكثير من الموظفين والأعوان.
مرضى يعانون بسبب عطلة الكوادر الطبية
ولم يتوقف أمر عطلة الصيف عند الإدارة العمومية التي تقدم خدمات تتعلق باستخراج الوثائق وسحب الأموال، بل حتى المستشفيات باتت تفتقر لبعض التخصصات الطبية التي يحتاجها المرضى في فصل تكثر فيه الأمراض، والتسممات والحساسية، حيث ذهب بعض الأطباء المختصين لقضاء العطلة خلال شهر أوت.
وأغلب الأطباء الخواص أغلقوا عياداتهم خلال هذا الشهر، والذهاب في عطلة، تاركين وراءهم مرضى يحتاجون إلى تخصصاتهم، لاسيما التي تتطلب متابعة، وتحاليل طبية، وتغييرا في بعض الأدوية مثل أمراض القلب والشرايين، والغدد الصماء، الأمراض التنفسية، وغيرها، ناهيك عن تخصصات جراحة الأسنان، وعلاج أمراض العيون.
وإن بقيت بعض العيادات الخاصة، ومخابر تحليل الدم، مفتوحة، إلا أنها تستعين أحيانا بالمستخلفين، الذين يكونون أقل خبرة، فيجد المريض نفسه تحت رحمتهم في ظل غياب المختصين الأصليين، وقلتهم في المستشفيات العمومية.
العطلة الجماعية للأطباء مشكل صحة عمومية
وفي هذا السياق، أكد رئيس الهيئة الجزائرية لترقية الصحة وتطوير البحث، البروفسور مصطفى خياطي، لـ”الشروق”، أن العطلة الجماعية للأطباء الخواص في شهر أوت، تعتبر مشكل الصحة العمومية، وقال إن أكثر المتضررين هم المصابين بالأمراض المزمنة الذين تعودوا اللجوء إلى طبيبهم الخاص، وعندما يقعون في طارئ صحي لا يعرفون كيف يتصرفون.
وأوضح أن بعض الأدوية التي تمنح لبعض المصابين بالأمراض المزمنة، تتسبب لهم في مضاعفات غير مرغوبة، وعندما يحاولون العودة إلى طبيبهم لتغييرها بأدوية أخرى وبما يتناسب مع المرض الذي يعانون منه، يتفاجؤون بأنه ذهب في عطلة، ويأتي ذلك مع غلق عيادات أخرى في نفس تخصصه.
ويرى خياطي بأن أكثر المناطق الجزائرية التي تعاني من عطلة الأطباء صيفا، هي الولايات الداخلية والجنوبية، داعيا إلى مزيد من التنظيمات المتعلقة بعطل الأطباء الخواص.
من جهته، أكد محمد كواش، المختص في الصحة العمومية، أن عطلة أطباء القطاع الصحي في شهر أوت، مشكل كبير يحمل عواقب عديدة ومخلفات وتناقضات تمس بالخدمات الاستشفائية، وتؤثر على سيرورة المنظومة الصحية، والمواعيد الطبية وعلى صحة المرضى.
مطلوب خارطة توزيع وطنية للأطباء وللتخصصات الطبية النادرة
وقال كواش إن اغلب الأطباء يفضلون شهر أوت للذهاب في عطلة، وأكيد أن هناك تأثيرات، خطيرة بحسبه على سير المنظومة الصحية في هذه الفترة، حيث أشار إلى أن العمليات الجراحية تتوقف لسببين، وهما خروج الجراحين في عطلة وارتفاع درجات الحرارة صيفا، وهذا ما يؤدي إلى تراكم هذه العمليات بعد أوت.
وأضاف كواش قائلا: “لا بد من إجراءات استباقية لتجنب حدوث الخلل والضغط والتأثير على سير نظام العمليات الجراحية، والمواعيد الطبية المختلفة، وهذا من خلال تكثيف البرامج من طرف الأطباء المختصين وجميع التخصصات قبل العطلة”.
وتأسف لأن كلا القطاعين الخاص والعام معنيين بالعطلة الجماعية للأطباء، فعلى وزارة الصحة بحسبه، أن تقوم بوضع برنامج خاص يتناسب مع جدول زمن الكوارث والحوادث الذي نعيشه الآن، حيث لا يمكن بحسب كواش، إفراغ المستشفيات من جميع التخصصات الطبية المختلفة، بوجود جدول محترم ينظم العطل الصيفية للأطباء.
وأفاد المختص في الصحة العمومية، كواش، بأن تأجيل المتابعات الطبية للمرضى خلال العطلة الصيفية، يؤدي إلى اكتظاظ قائمة دفتر المواعيد العلاجية، والمتابعة لهؤلاء، وقال إن هناك مرضى يعانون في صمت بسبب اكتظاظ المستشفيات العمومية وذهاب الأطباء الخواص في عطلة.
ومطلوب بحسب كواش اليوم، من وزارة الصحة، خارطة لتوزيع الأطباء ولائيا ووطنيا، والتنسيق بين التخصصات وتجنب العطل الجماعية للأطباء، وإعطاء أهمية متابعة التخصصات النادرة، وتطبيق على مع أطبائها المناوبة في العطل.
غياب نظام المناوبة يعطل مصالح المواطنين
وفي هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي، عبد الرحمان هادف لـ”الشروق”، إن المشكل في الكثير من المؤسسات العمومية والخاصة هو غياب نظام المناوبة في الكثير من المناصب التي يحتاج فيها المواطن لخدمات مستعجلة، مستغربا من بعض المصالح التي تجد صعوبة في تحديد عطل الصيف لموظفيها وعمالها.
وأكد هادف أن عطلة أوت وغياب المسؤولين خلالها عن مراقبة ومتابعة خدمات ضرورية ومستعجلة للمواطن، يظهر أثرها السلبي مع الدخول الاجتماعي، حيث تعطيل مصالح المواطن يؤدي بعدها إلى ضغط عليه وعلى الإدارة العمومية في شهر سبتمبر.
وقال الخبير في الاقتصاد، عبد الرحمن هادف، إن الإدارة العمومية، لها دور مهم في تحقيق تنمية إدارية واقتصادية مستدامة، خاصة أن الحكومة الجزائرية تسعى إلى ذلك، وبذلك تصبح مسألة العطل كضرورة يراعى وضعها في قالب تحقيق الصالح العام، وتفادي تذمر المواطن مما يحدث خلال العطلة الصيفية من غيابات بالجملة للمسؤولين والموظفين.
ومطلوب من المؤسسات العمومية خلال عطلة الصيف بحسب هادف، إتباع أساليب حديثة تبرهن من خلالها على تحقيق القيادة الإدارية وتوفير كل الظروف اللازمة، تبدأ بحسبه، من منح عطل حسب أولويات الوظائف والخدمات، وطبيعتها، والعمل جاهدا على إيجاد من ينوب على المستفيدين من العطلة الصيفية، لاسيما تلك المتعلقة بشهر أوت.
وقد وصلت بحسب بعض المصادر من المجالس الشعبية البلدية، لـ “الشروق”، تعليمات إلى رؤساء البلديات تمنع دخول المير والأمين العام في عطلة معا، وترك مهام مصلحة الخدمة العمومية فقط لبعض الموظفين.