على جبهة الصراع السياسي.. الأحزاب واللعبة الجديدة للاستعمار
نشأت الأحزاب السياسية في العالم العربي على خلفية مقارعة الاستعمار والتخلص من سيطرته، إلا أنه تمكن من خلال وسائل عدة كان يمتلكها، من تدجين بعضها وإدخالها في لعبة الدفاع عن مصالحه.. والتي لم يفلح معها سعي لتزيف معركتها السياسية، وقليلة هي الأحزاب التي فلتت من قبضته وتمكنت من إدراك لعبته والانتصار عليه.. وكذلك اليوم تتكرر اللعبة بأساليب جديدة بين التدجين ومحاولة الهيمنة والمقارعة والبحث عن الانتصار.
يخطئ من يعتقد أن اللعبة السياسية في أي بلد عربي أو إسلامي هي لعبة داخلية صرفة لا علاقة لها بالصراع مع مستعمِر الأمس ومهمين اليوم، ويخطئ من يعتقد أن هذا الاستعمار كما لجأ بالأمس إلى السعي لتدجين الحياة الحزبية لصالحه، وإلى خلق موالين له يدافعون عن مصالحه، وإلى بث روح الفرقة والفتنة بين الاتجاهات المختلفة، لا يفعل اليوم، وإن كان ذلك تحت غطاء الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان أو دعم ما يُعرف باتجاهات المجتمع المدني المنضوية تحت شعار العصرنة والانفتاح السياسي على الغرب.
بل اليوم المعركة أشرس والوسائل المستخدَمة أكثر تعقيدا، والغايات أكثر تشابكا وهناك صعوبة في معرفة معالم الطريق الصحيح من الطريق الخاطئ. اليوم لا نملك اتجاهات سياسية كبرى واضحة المعالم كما كان بالأمس: هذا إصلاحي وذاك اندماجي وثالث وطني تحرري ينادي بالاستقلال لنعرف أي اتجاه ندعم أو مع أي اتجاه نسير… التعددية السياسية سمحت بتشكيل عشرات الأحزاب، وحوّلت الاتجاهات الكبرى إلى أشلاء وفروع لم تتوقف هي الأخرى عن الانقسام، حتى كاد الاختلاف بين هذا وذاك يصبح أمرا عسيرا. ولذلك فإنه علينا أن نعترف بأن معركة الاستعمار اليوم أسهل ما كانت عليه بالأمس لبث التفرقة ولمنع التيارات من أن تتلاقى لأجل بناء وطن مستقل عن إرادته، وسلطة تمنعه من استغلال خيراته على غير وجه حق.
بالأمس كانت من بين أساليب الاستعمار أن يبثّ الفتنة بين جمعية العلماء في الجزائر وحزب الشعب على اعتبار أن هؤلاء إصلاحيون لا علاقة لهم بمطلب الاستقلال الوطني وأولئك يساريون لا علاقة لهم بالانتماء لروح الأمة، ولكنه كان من السهل أيضا على ابن باديس أن يُبرهن على وطنيته من خلال الدفاع عن قيم الأمة ومن السهل أيضا على مصالي الحاج أن يُثبت إسلامه وهو يصارع المستعمِر من أجل هدف سياسي واضح هو استقلال الجزائر، ومن خلالهما كانت تتشكّل الخارطة السياسية بوضوح تام أمام الجزائريين ليعرف كل منهم كيف يتمكن من عدم التفريط في كلا الهدفين: تحقيق الاستقلال الوطني وتأكيد الانتماء لقيم حضارة الإسلام كما تجلى ذلك بوضوح في المطلب السياسي لبيان أول نوفمبر 1954: إقامة الدولة الجزائرية المستقلة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية.
كانت الأطراف المشكّلة للخارطة السياسية في تلك الفترة من الوضوح التام بما يسمح بمعرفة الصديق من العدو، ومعرفة الطرح الصحيح من الطرح الخاطئ، والخروج بأفضل حل يتطابق مع تطلعات الجماهير وانتماء الأمة.. أما اليوم فإننا لا يمكن أن ندرك بذات الوضوح ماذا يُراد بنا من خلال هذه التعددية السياسية التي لا تكاد تُفهم. هل هي عودة مرة أخرى إلى تشتيت القوى على جبهة الصراع السياسي كما يحدث على جبهة الصراع الفكري؟ هل هو عملٌ لضرب قوى المجتمع ببعضها البعض من خلال هذا العدد الهائل من الأحزاب حتى لا تتمكن من إيجاد مخرج لحالها، ويستمر هو في نهب خيرات بلدها بالطريقة التي يريد؟ أم هي بالفعل حقيقة اجتماعية ومرحلة ينبغي أن نمر بها قبل أن نصل إلى برّ الأمان وإلى إقامة مجتمع خال من الاستبداد؟
بالعودة إلى تاريخ الأحزاب في العالم العربي، يتبين لنا أنها بالفعل بدأت تنشأ في نهاية القرن التاسع امتداداً للنهضة الإسلامية الساعية للتحرر من الاستعمار، حيث أسس العُرابيون الحزب الوطني في مصر (أحمد عرابي وأحمد حليم باشا) سنة 1879، وتطورت في بداية القرن العشرين من خلال حركات وطنية مثل الحزب الحر الدستوري التونسي 1920 والذي كان امتداداً لحركة الشباب التونسي ومن بين مؤسّسيه (عبد العزيز الثعالبي صالح فرحات محيي الدين لقليبي)، وحزب نجم شمال إفريقيا في الجزائر على يد مصالي الحاج وقبله حركة الأمير خالد التي اعتبرت كأول نشاط سياسي جزائري حديث في بلادنا، وكذا كتلة العمل الوطني بالمغرب الأقصى التي أسسها كل من علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني…الخ.
ومن بداية نشأة هذه الأحزاب وهي تعرف تدخل الاستعمار في محاولات منه لكسر إرادتها وتشتيتها ومنعها من تحقيق أهدافها. وقد وصل به الأمر إلى إنشاء أحزاب منشقة عنها أو مُنافِسة لها تخدمه وتعبر عن أهدافه كما حدث في مصر مع الحزب الوطني الحر (حزب الأحرار) الذي تأسس في سنة 1907 وكذا الحزب الدستوري اللذين كانا موالين له ولعملائه بالداخل، كما قام بدعم أحزاب على حساب أخرى مثلما حدث في الجزائر من خلال دعم الاتجاه الاندماجي والشيوعي لفترة من الفترات في مواجهة الحركة الوطنية الداعية إلى الاستقلال، وفي أسلوب ثالث سعى إلى خلق اتجاهات سياسية مناوئة للاتجاه الوطني كما حدث في المغرب الأقصى عند محاولة الإطاحة بثورة عبد الكريم الخطابي من خلال محاولة تقسيم المغاربة إلى عرب وبربر بواسطة مراسيم قانونية…الخ. وهكذا كان الاستعمار يستخدم كافة الوسائل لمنع الأحزاب السياسية الوطنية من أن تعمل على تحقيق أهدافها.. ولا يمكننا بأيّ حال أن نقول بأن مثل هذه الأساليب قد زالت.. بل ربما العكس هو الصحيح.
أحزاب اليوم، لا يمكن بجميع المقاييس مقارنتها بالأحزاب التي ظهرت منذ أكثر من قرن من الزمن لاختلاف المرحلة التاريخية والأهداف من نشأتها وطبيعة القيادات التي هي على رأسها، إلا أنها تشترك جميعا في ذات الوضع الذي كانت عليه تلك الأحزاب: أنها هي الأخرى معرّضة لألاعيب الاستعمار الجديدة ومعرّضة لكل تلك المحاولات التي استخدمها من قبل ومازال يستخدمها اليوم، بل إن وسائله اليوم أصبحت أكبر.
ولا أدل على ذلك مما نراه من تبعية فصائل حزبية بأكملها في المشرق العربي خاصة إلى قوى دولية خارجية، وإلى عملها الصريح لخدمة مصالح أجنبية في المنطقة، وإلى تحوّلها إلى أدوات حقيقية في أيدي قوى الاستعمار الجديد تستخدمها كما شاءت، إلى درجة أن تحوّل بعضها إلى العمل العسكري قام من خلاله بتخريب كل شيء بما في ذلك نفسه.. أمّا ما نلاحظه من انقسام وتشتّت، وعدم وضوح الرؤية والأولويات والأهداف المركزية فحدث ولا حرج، حيث أن الكثير من التيارات السياسية غاب عنها الهدف الحقيقي الذي من أجله وُجدت، وتحولت إلى السعي لتحقيق أهداف فرعية وأحيانا ثانوية وإلى فتح جبهات صراع وهمي حولها، بل إلى الخروج من جبهة الصراع الإستراتيجية المناهضة للاستعمار والغرب عكس ما كانت تقوم به الأحزاب الوطنية التي سبقتها.
ولعلّ هذا هو البُعد الغائب اليوم على جبهة الصراع السياسي، قلة إدراك لأدوات الاستعمار الجديدة، وعدم انتباه لخطورتها، إلى أن يتحوّل التنافس الحزبي إلى صراعات تناحرية لا تُبقي ولا تذر، كما حدث في ما يُعرف اليوم ببلدان الربيع العربي، حيث فقدت الأحزاب السياسية كل سيطرة على الوضع، ووجدت نفسها في موقع لا هي تستطيع إنقاذ بلدها ولا نفسها، على خلاف تلك الأحزاب الوطنية في حقبة الاستعمار التقليدي التي إن لم تنقذ نفسها حققت الاستقلال لبلدها ولو إلى حين… أليس في ذلك مدعاة لطرح السؤال مرة أخرى: هل نحن في مستوى المواجهة على جبهة الصراع السياسي كما كان أسلافنا بالأمس؟