عندما يناقض الوزير نفسه!
قبل عشرين عامًا بالتمام، تمّ غلق شعبة العلوم الإسلامية من التعليم الثانوي في الجزائر، بتوقيع أحمد أويحيى، ما يضع الحكومة الحالية في حِلٍّ من مسؤولية القرار سيّء الذكر، لكن من الغريب أن تتولّى اليوم وزارة التربية الدفاع عنه بأثر رجعي، مع أنّ ما يسمى زورًا “إصلاح المناهج” القائم حتى الآن ليس إلا تركة مسمومة من عهد العصابة، تستوجب التعجيل بتطهيره وفق برنامج الرئيس عبد المجيد تبون.
في غضون أسابيع قليلة، خرج عبد الحكيم بلعابد، وزير التربية الوطنية، أكثر من مرّة على الرأي العام، بموقف الجزم القاطع، ضدّ أي مطلب لإعادة إدراج تدريس العلوم الإسلامية، بصفتها شعبة مستقلة، بمرحلة التعليم الثانوي.
وحينما حاول وزير القطاع تبرير التمسك بالقرار لم يكن موفّقًا في إقناع أصحاب الأسئلة البرلمانيّة، ومن ورائهم المختصّين الرافضين للخيار الحكومي القديم، لأنه ببساطة تجاهل الدوافع الحقيقية، ليناقض نفسه في تقديم المسوغات الواقعيّة.
ينبغي التذكير أولا أنّ توجُّه السلطات في 2004 لإلغاء شعبة العلوم الإسلامية من الطور الثانوي، جاء ضمن سياق جيوسياسي مشحون عالميّا وعربيّا على وجه التحديد، عقب أحداث 11 سبتمبر 2001.
وقتها، أشهرت الولايات المتحدة الأمريكية سيف حربها المزعومة على “الإرهاب الدولي”، بشعار “من ليس معي فهو ضدّي”، وكان من أسوإ نتائجها احتلال أفغانستان والعراق.
واشنطن جعلت من سقوط برجيْ مركز التجارة العالمي واستهداف مبنى البنتاغون ذريعة للاستحواذ على مصادر الطاقة، وإكراه الدول الإسلامية على تغريب مناهجها التعليمية، بحجة “تجفيف منابع الإرهاب”، في توجيه صريح لتقليص مساحة التعليم الديني.
خضعت الجزائر مثل غيرها من دول المعمورة للضغط الأمريكي، بتشريع قانون للطاقة على المقاس قبل تجميده لاحقًا، وموازاة مع ذلك، فتح ورشة علي بن زاغو لـ”إصلاح” المنظومة التربوية، لكن الله سلّم في نهاية المطاف من المساس البالغ بمقومات الهوية الوطنية، بفضل التدافع المجتمعي الكبير ضد المشروع المشبوه.
لذلك وجب الاعتراف اليوم أن حذف شعبة العلوم الإسلاميّة من المرحلة الثانوية كان ضمن مخرجات لجنة بن زاغو التي عملت في مناخ “الإملاءات الأمريكية للعالم”، ولا ضيْر، بل من الواجب، مراجعة القرار وفق تقييم موضوعي في زمن الجزائر الجديدة التي أرسى الرئيس تبون دعائمها على قواعد النديّة والسيادة الوطنيّة.
أمّا حين يقول الوزير إن تواجد الشعبة في سنوات سابقة كان يسمح لحاملي شهادة البكالوريا الجدد بالتسجيل الجامعي في تخصص واحد فقط وهو الشريعة، بينما ظلوا محرومين من الالتحاق بتخصصات أخرى في التعليم العالي، فإنّ علاج الخلل يكون بفتح التخصصات الجامعية أمام هؤلاء في كليات الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وليس بغلق الشعبة من التعليم الثانوي.
ثم يسقط الوزير في التناقض للمرة الثانية، عندما أوضح أنّ إخضاع التعليم الثانوي لإصلاحات تربوية أتاح لحاملي شهادة البكالوريا من كلّ شعب التعليم الثانوي العام والتكنولوجي فرصة التسجيل الجامعي في تخصص الشريعة والعلوم الإسلامية.
هنا يبرز السؤال الحرج: لماذا تفتحون تخصص الشريعة في الجامعات لكل حاملي شهادة البكالوريا مهما كان تكوينهم؟ بينما تمنعون حملة بكالوريا الشريعة من الالتحاق بأي تخصص جامعي خارجها؟
هل يعجز تلميذٌ حائز على بكالوريا شعبة الشريعة عن دراسة التاريخ أو اللغات أو الآداب أو الفلسفة أو حتى علوم التسيير؟ بالمقابل، كيف سمحتم لطلبة من شُعب الميكانيك والكيمياء والأشغال العمومية وسواها بدراسة علوم الشريعة في المرحلة الجامعيّة؟
إذن هناك تمييزٌ سلبي غير مؤسس علميّا ولا بيداغوجيّا، لأن الأمر يتعلق بحقل معرفي واحد ضمن العلوم الإنسانية ولا يتصل بدراسة الطب أو الهندسة، وهو ما ينبغي تداركه برؤية تعليمية صحيحة.
من الذرائع التي ساقها أحمد أويحيى أنذاك، هو سوق الشغل كذلك، زاعمًا أن المخرجات الجامعيّة للتخصص لم تعد مطلوبة مهنيًّا، بينما يتأسس الإصلاح التربوي على علاقة التعليم بالمحيط الاقتصادي.
لكن إذا سمعنا إلى جواب الوزير بلعابد، ردّا على مطلب أعضاء البرلمان بإسناد تدريس التربية الإسلامية في طور المتوسط إلى أساتذة التخصص، سنقف على التضارب في الرأي؛ إذ يرفض المسؤول الحكومي اشتراط التخصص، بحجة أن أساتذة اللغة العربية يتكفلون بالمهمة.
هذا الموقف الخاطئ سيثير استنتاجات مغلوطة، تربط المسألة بإرادة وزارية في عدم فتح الآفاق المهنية أمام خريجي العلوم الإسلامية، ولا تتعلق بتاتا بتشبع سوق العمل.
ثم حتى لو سايرنا الوزارة في تبريراتها المعلنة، فهل يمكن قياس تلك المسوغات على استحداث شعبة الفنون بالثانويات الجزائريّة؟ حيث يتوجه جميع ناجِحوها إجباريّا إلى تخصص الفنون بالجامعات ويبحثون لاحقا عن فرصة العمل ضمن نفس الفضاء، من دون أي يطرح ذلك أي مشكلة حول الجدوى من فتح آلاف الأقسام لها وطنيّا، طالما أنّ التوجه نحوها يظل اختياريّا.
لقد قال وزير للتربية، في جوابه أمام أعضاء مجلس الأمة مؤخرا، إنّ إعادة هيكلة التعليم الثانوي جاء ضمن “التوجُّهات العالمية وبما يضمن تحقيق الحداثة”، وهذا هو مربط الفرس في فهم ما حدث للمنظومة التربوية، لكن غاب عن محرّري ردِّ الوزير إبرازُ أولويّة تكريس المدرسة الجزائرية لأبعاد الهويّة الوطنيّة أولاً، لأن الانفتاح على العالم بنوافذ مُشرعة سيلغي خصوصياتنا الحضاريّة، حتّى يُحيلنا مسخًا مشوَّها مُلحقًا بذيل الغرب، من دون أن نرافقه في موكب التقدم.