-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عن الإسلام والديمقراطية والحريات

عن الإسلام والديمقراطية والحريات
ح.م

الأصل اللغوي لكلمة «الدولة» في المجال التداولي العربي الإسلامي لا يخرج عن المعنى الحقيقي، المشتق من الجذر (دول)، الذي يدور مدلوله حول التعاقب والتوالي على أمر ما. ثم أطلق اللفظ مجازاً على ذلك الكيان الاجتماعي الذي يضمّ أقانيم ثلاثة، تعرف اليوم في القانون الدستوري بمكونات الدولة الأساسية، ويعني بها: الأرض والشعب والسلطة. ولمَّا كان الشأن في هذا الكيان خاضعاً لعوامل التغيير والتبديل، فقط ارتبط المعنيان اللغوي والاصطلاحي بخيطٍ رفيع، لا يشذّ عمّا يعنيه اللفظ في أصل الوضع.

لا يزال علماء القانون الدولي والدستوري يتجادلون في ماهية «الدولة»؛ إذ ترى المدرسة اللاتينية بأنّ اللفظ يُطلق على مجموع تلك العناصر الثلاثة، وتذهب المدرسة الأنجلوساكسونية في مقابل ذلك إلى القول إنّ «الدولة» تعني «السلطة السياسية» القائمة. وسبب الاختلاف بين الطرفين يعود إلى تحديد مصدر السيادة داخل هذا الكيان: هل هو للشعب أم للسلطة الحاكمة فيه؟ ولأن هؤلاء القوم في المدرستين لا مبلغ لهم من دراسة هذه الظاهرة البشرية سوى ما تشهده أعينُهم من عناصر حسيّة مؤسِّسة لكيان الدولة، فإنّ الدين الإسلامي قد أضاف إلى عناصر هذا الكيان بُعداً رابعاً، فصل فيه هذا الجدل وصيّره شكلياً، عندما أكّد أنّ مصدر السيادة في الدولة الإسلامية هو الله عز وجل، وما السلطة إلاّ قائمة على تطبيق هذه الإرادة.

شاع على ألسنة الناس في العصور المتأخرة مصطلح «الدولة الإسلامية»، وقد بدا لأكثر هؤلاء أنّ معنى هذه التسمية واضحٌ ولا حاجة له إلى بيان، بيد أنّ الأيام أظهرت أنّ مدلول اللفظ يستبطن غموضاً لا يُنكر، وتخبطاً أدى إلى مآزق في الفهم أثرت على صورة هذا النموذج في تنظيم الجماعة في حسّ الناس، وخاصة لدى دعاة المشروع الإسلامي في السياسة والحكم، عندما طُرحت عليهم إشكالاتٌ منهجية من وحي الفلسفة وعلم الاجتماع السياسي، اللذين لا يفتآن يعيدان النظر في مفاصل الكيانات البشرية وتفاصيلها.

لم يكن مفهوم «الدولة» ليتفلّت من هذه الفوضى التي عمّت بلاد المسلمين شرقاً وغرباً، فقد فرض الاستعمار الأوروبي نمطاً مغايراً لما كان سائداً في التنظيم السياسي لهذه البلدان، فأسقط الفرنسيون شمال إفريقيا حكومة وأرضاً وأضافوها إلى دولتهم، واستبدل الإنجليز والصهيانة دولة فلسطين بأخرى سموها «إسرائيل»، أتت على الحكم والأرض والبشر الذين هُجِّروا من ديارهم تهجيراً، وفُرضت علمانية حادة في الحكم على تركيا، معقل الخلافة العثمانية، وإن بقيت أرضها وناسُها في حوزة المسلمين.

شكّلت الأبحاث الأكاديمية، منذ هذه الفترة المظلمة من تاريخ أمتنا، ثروة محترمة، خاصة تلك التي بحثت في القوانين المقارنة بالشريعة الإسلامية، كان على رأسها أطروحة المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري عن «الخلافة والإمامة»، وغيرها كثير مما قارب موضوعات تتعلق بالأنظمة السياسية والقوانين الدستورية والدولية، وكأن الأقدار شاءت أن تكون هذه الدراسات أساساً في معالجة قضايا هذه الأمة المنكوبة، التي نُعتت دولها بأوصاف لا قِبل لها بها، خاصة بعد ظهور حركات التحرر وإنجازها الاستقلال لأوطانها، فتشكّلت دولة قومية هنا، واشتراكية هناك، ووطنية في هذا البلد وملكية في ذلك، ورُكبت هوياتٌ مبتدعة لشعوب عهدها بالدولة «الإسلامية» ليس ببعيد، ولو لم تحمل الأدبيات السياسية الموروثة من تلك الحقب هذه التسمية، التي لا تزال تثير الجدال، وتتسبّب بالقيل والقال.

إذن، ليست الطبيعة الديمغرافية لشعوب هذه الدولة ما يعطي هويتها السياسية، بل مردّ ذلك إلى ماهية السلطة القائمة التي تتولى تنظيم العلاقات داخل هذا المجتمع. ولما كانت السلطة في الإسلام تستمد نظامها الذي تسوس به شعبها من الإسلام، ولما كان الإسلام هو دين الله الذي ارتضاه لعباده المؤمنين، كانت السلطة في «الدولة الإسلامية» سلطة اعتبارية، لأن صاحب السيادة والأمر والنهي هو الشارع الحكيم الله عز وجل.

إنّ التنظير لعلمانيةٍ في الإسلام تشويه لحقيقة هذا الدين، الذي لم يفصل بين ما هو روحي وما هو زمني، بل جاء بشريعة متكاملة تحفظ للإنسان دينه ودنياه.

إنّ تلمّس مواطن الخلل في تطبيق الدين في نظام الحكم، وتجميع نقاط الضعف البشري في ذلك من التاريخ الإسلامي، فذلك يُعطي بسطاء الثقافة الإسلامية صورة مشوهة عن تاريخ ممتد إلى ثلاثة عشر قرناً، كانت الدنيا تُساس بالدين، والدولة تحكم بالشرع؛ رأى فيها الدارسون العلميون الموضوعيون صورة مشرقة للحضارة المتكاملة في شتى جوانبها، ولو عددنا مواقف النجاح لما وسعتنا المجلدات. ونقاط الإخفاقات رغم كثرتها إلا أنّها مغمورة في بحر الإنجازات.

تنبثق عن هذه المعالم الرئيسية مسائل حيوية لا تزال تُسيل المداد كل آن وحين. من ذلك مثلاً «استغلال» مراجع دينية مقولة أنّ “الحاكمية لله” للبقاء أو للوصول إلى السلطة، باعتبار أنّهم أعلم الناس بهذا الدين، مُقصين آخرين من حق الترشح والتمثيل لأنهم لا يحملون الروحية والكفاية اللازمة للقيام بهذا الواجب المبين. في الوقت الذي توسّعُ الديمقراطية الحرية لكلّ الفرقاء، ليغدوا سواسية أمام هذا الحق العامّ، وهو فارقٌ يوهّن من عضد المراجع الدينية ويحرجهم على الدوام.

والجواب عن هذا الاستشكال مرتبط أساساً بمفهوم الأمة في الإسلام، إذ هي مجموعة أفراد يعتقدون بفكرة واحدة، تنبثق عنها صورة لدولة تقوم على حمايتهم وتدير شؤونهم بهذه الفكرة، والإسلام في نهاية المطاف عقيدة وشريعة يحتاج إلى دولة. ومن هنا كانت نقطة الضعف عند الديمقراطيين، الذين وسّعوا مفهوم التعدّدية والحرية لتشمل كلّ شيء، حتى ما يعتبر تناقضاً مع ثوابت هذه الأمة. ولهذا وجد المتديّنون ذريعة للقول بعدم شرعية المشاريع المناقضة لأسس الدين، وعمّموا ذلك على ألوان الطيف الستة عدا اللون الذي ينتمون إليه. ومكمن الخلل في هذه الرؤية المستبدّة باسم الدين في إغفال حق المقتدرين، من أبناء الأمة، ممّن يمتلكون كفايات عالية في شؤون الإدارة والحكم، فهؤلاء المتخصصون كأولئك المتدينين في أحقية الولاية العامة، إذا كان صلاح الشأن لا يكون إلاّ بهم.

يتأثر بعض علماء الاجتماع بالمدرسة اللاتينية القائلة إنّ الأصل في الدولة عائدٌ إلى الشعب فيقولون إنّ «إسلامية» الدولة ترتبط بالسمة الغالبة على أبنائها، فإن كان أغلبهم مسلمين فهي إسلامية والعكس بالعكس. وهذا الرأي، على وجاهته، يصطدم بالوقائع التاريخية للفتوحات الإسلامية، التي كانت تضيف إلى دار الإسلام دار الصلح، وهي ما كان أهلها غير مسلمين ولكنهم رضوا بولاية المسلمين العامة عليهم؛ مما يعني أنّ دولاً تتناصف شعوبها الديانات المخلتفة ستكون خارج إطار الدول الإسلامية، وإن كانت تاريخياً داخل هذه الدولة!

تلك هي خلاصة الجدل القائم بين الناس اليوم في مدلول مصطلح «الدولة الإسلامية»، وهو تعبيرٌ يشير القائلون به إلى حقهم التاريخي، الذي اغتصِب منهم بالعدوان والجور، في دولةٍ تحفظ كيانهم وتسوس دنياهم على هدي دينهم، وهو حق منطقي تُقرّه الشرائع والفضائل الإنسانية. ويبقى التحدي أمام القائلين بالدولة الإسلامية مشرَّعاً على قضايا أخرى ذات أهمية وصلة، تتعلق بتنظيم السلطة داخل الدولة، ومرونتِها في استيعاب مخالفيها في العقيدة أو المنهج، وقدرتِها على حفظ نفسها من طغيان الحاكم وظلمه، وفوق ذلك كله وفائِها لرسالتها في الحياة وقدرتها على تبليغ الخير الذي أرسلت به إلى الناس كافة، امتثالاً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة».

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • خليفة

    الحاكم في الدولة الاسلامية ،هو حاكم مدني من جميع الوجوه ، فهو بشر يصيب و يخطيء ،و ليس له صلاحية خاصة للاستءثار بتفسير الكتاب و السنة ،و الشعب هو الذي يقوم بتعيينه ،فاذا فارق الكتاب و السنة و فرط في مصالح الشعب ،يمكن لهذا الاخير عزله و تنصيب اخر مكانه ،و يجب ان يفتح باب الحوار و الاستشارة مع الشعب و لا يستاثر بالراي و الحكم لوحده ، و من هنا لا اختلاف بين الديمقراطية و الشورى في الاسلام ، و الفارق الجوهري بينهما هو ان الشورى لا تحل حراما و لا تحرم حلالا ،فالاجماع يكون وفق مقتضيات الشريعة و مصالح الامة.و عليه فالقول بالدولة الاسلامية لا يعني بتاتا ان هذه الدولة دينية ،و انما هي دولة مدنية.