عن الحروب “الأخلاقية” لأمريكا!
أثار الرئيسُ الأمريكي جو بايدن منذ أيام ذهول العالم حينما وصف نظيره الروسي فلاديمير بوتين بـ”مجرم حرب”، وقال إنه “يشنُّ حربا غير أخلاقية على أوكرانيا”!
لو جاء هذا الوصفُ من رئيس دولة مسالِمة كسويسرا وفنلندا والسويد مثلا، لكان أكثرَ مصداقية، لكن أن يصدر عن رئيس دولةٍ ظالمة معتدية تورَّطت في الكثير من الحروب والنزاعات، وغزت دولا عديدة ذات سيادة، وأسقطت أنظمتَها، وحوّلتها إلى دول فاشلة، وارتكبت أبشع الجرائم بحقّ أبنائها، فهذا ما يثير الاستغراب؛ فإذا كان بوتين “مجرم حرب”، و”يشنُّ حربا غير أخلاقية على أوكرانيا”، فكيف نصِف رؤساء أمريكا المتعاقبين الذين تورّطوا في قصف اليابان بالنووي في 1945، وفي غزو فيتنام (1961- 1973)، ثم في احتلالِ أفغانستان في أكتوبر 2001 والعراق في 2003، وقصفِ ليبيا في إطار حلف الناتو في 2011، وشنِّ آلاف الغارات بالطائرات المسيَّرة على اليمن سنوات عديدة بذريعة محاربة “القاعدة” ومقتضيات “الحروب الاستباقية على الإرهاب”؟ وبماذا نصفُ احتلال أراضٍ سوريةٍ شرقيّ الفرات وسرقة ثروتها النفطية وتهريبها بمساعدة خونةٍ أكراد؟ هل كلّ هذه الحروب والمجازر وأعمال الغزو والنهب “أخلاقية”؟!..
لقد محت الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين تماما من الخريطة بقنبلتين ذريتين، وقتلت مئاتِ الآلاف من سكانهما، ولا تزال آثار الإشعاعات النووية المُسرطِنة تفتك بالسكان هناك إلى حدّ الساعة، كما قتلت الملايين في فيتنام والعراق وأفغانستان وليبيا، وخلّفت أيضا حروبُها هناك عشرات الملايين من الجرحى واليتامى والأرامل واللاجئين ودمارا كبيرا، ومارست أعمالَ تعذيب بشعة في عدة دول، ولا تزال جريمة سجن أبو غريب ماثلة في الأذهان. ولئن تمكّنت فيتنام من تجاوز آثار الغزو والخراب، فإنّ البلدان الإسلامية الثلاثة تحوّلت عمليا إلى دول فاشلة لا تزال تعيش آثار الانقسامات وعدم الاستقرار والحروب الأهلية والفقر وغياب أبسط الخدمات إلى اليوم. واللافت أنّ أمريكا غزت العراق بعد افتعال كذبة صنع أسلحة كيميائية في مختبرات صغيرة داخل شاحنات متنقّلة، وقصفت الجيش العراقي باليورانيوم المنضّب، وأسقطت النظامَ، ودمّرت البلد، وبذرت فيه بذور الانقسام الطائفي والعرقي، ونشرت فيه الفقر والفساد، ثم اعترفت بأنّ أسلحة الدمار الشامل كانت مجرَّد كذبة وانسحبت وكأنَّ شيئا لم يكن!
وأكثر من ذلك، فإنّ الولايات المتحدة هي الداعم الأول للاحتلال الصهيوني منذ قيامه في 1948 إلى حدّ الساعة، وقد ساهمت بقوة في نكبة الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم وقراهم وتشريد الملايين منهم، ولا تزال تزوِّد الاحتلال بأحدث الأسلحة لقتل الفلسطينيين وتصفية قضيتهم والتفوّق عسكريا على العرب أجمعين… فهل تعدُّ رعاية إرهاب الدولة الذي يمارسه الاحتلالُ العنصريّ ضدّ شعبٍ مستضعَف أمرا “أخلاقيا”؟
لو كان هناك عدالة في هذا العالم، لجُلب العديدُ من الرؤساء الأمريكيين الذين لا يزالون على قيد الحياة، إلى محكمة الجنايات الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، ولفُرضت على الولايات المتحدة دفعُ تعويضات بتريليونات الدولارات لكلٍّ من أفغانستان والعراق وليبيا على تدمير بنياتها التحتية والإطاحة بأنظمتها ونشر الفوضى فيها، ولكنّ ما دمنا نعيش عصر عدالة القويّ، فإن هذه المحكمة لا تستأسد سوى على الضعفاء أمثال عمر البشير في حين يبقى كبارُ مجرمي الحرب الأمريكيين أحرارا طلقاء.
باختصار، لقد قتلت أمريكا -التي قامت أصلا على جماجم الملايين من الهنود الحُمر- ملايينَ البشر في حروبها الظالمة، وما ذكرناه من أمثلة ليس سوى غيضٍ من فيض، لذلك فهي آخر من يحقّ لها الحديث عن “جرائم الحرب” و”الأخلاق” في هذا العالم.