عِلم الباطن وعلم الظّاهر
يحتاج الرّسل إلى معجزة تؤيّد ما بعثهم الله به، وهم بحاجة إلى شيء غير تقليدي يخرق النّواميس ليؤمن بهم أهل زمانهم فيسهل عليهم البلاغ والبيان، لأنّهم مكلّفون بالتّبليغ وبالتّعريف بالمعبود -جل جلاله- وإذا لم يؤمن النّاس بأنهم رسلُ الله فلن يسمعوا منهم ولن يأخذوا عنهم. بينما الأولياء ليست لهم رسالة خاصّة يبلّغونها للنّاس، وليسوا مطالبين بأن يثبتوا لأحد أنهم أولياء الله، وليست لهم خصوصيةً يخْرق الله لهم بسببها النّواميس طالما أنهم ليسوا رسله، وإنما هم ورثة أنبيائه مكلّفون -ككلّ مؤمن-ـ بتبليغ ما وعوه عن ربّهم وما ورثوه عن رسله. والدّعوة إلى الله علمٌ وفقه وأدبٌ وأساليب خطاب، وليست أبدًا معجزات وكرامات وخرْق نواميس. فما يجري على أيدي الدّعاة ليست له خصوصية إعجاز كخصوصية الرّسل، إنما هم مطالبون بمطابقة القول للعمل ليكونوا قدوةً لمن يتوجّهون إليهم بالدّعوة. وهذا حال الخِضْر مع موسى.
أولياء الله الصّالحين ليسوا مطالبين بأن يكونوا على درجة المرسلين المعصومين بعصمة الوحي المؤيّدين بالمعجزة الموحَى إليهم من ربّهم. ففي هذه القصّة مثّل موسى –عليه السّلام- حقيقةَ المعجزة والوحي والفهم والعلم والحكم والعمل والقدوة. أما الخضر -رضي الله عنه- فمثّل ما وراء العلم المنظور بما أعطاه الله من قدرة على صرْف العلم وليس تصريفَ العمل؛ فما كلّ مؤمن مأمورٌ بأنْ يخرق السّفن بزعم أنّ وراءها ملك يأخذ كلّ سفينة غصبا، حتّى لو علم أنّ ذلك كائن. وما قام به ليس تشريعا وإنما هو إعلام بقدرة الله على كشْف الغيب لمن شاء من عباده. وقل مثل ذلك عن قتْل الغلام وعن بناء الجدار. فليس من حقّ أيّ بشر -كائنًا من كان-ـ مدّ يده لإزهاق روح بشريّة بذريعة “تذوّق” الحقيقة التي يزعم بعض “صرْعَى الهوى” أنها فوق الشّريعة. فإذا ظهر في البشريّة علمٌ يكشف عن الكنوز المخبوءة تحت الأرض بأشعة تخترق المطمور فأبْصرتْ آلات الكشف كنزًا لصبْيه يعيشون في مجتمع موصوف بشدّة البخل والرّغبة في أكل أموال اليتامى ظلما، فهناك طرُق شرعيّة معلومة في فقهنا توجب حماية مال اليتيم حتّى يبلغ أشدّه، فلا حجّة لمن يتحدّثون عن “علم الكشْف” للمساس بأصول العقيدة وخرْم أصول التّوحيد وزرايتهم بالعقل وعنادهم للنّقل.
فالخوض في أسرار الغيب -بغير اتّكاء على النّقل- شطح في عوالم لم يأذن الله -جل جلاله- لملك مقرّب ولا لرسول مرسل بأن يخوض فيها إلاّ في حدود ما كشف له منها، وما وراءها استأثر الله به في علمه وحده. وكلّ خوض فيه يمسّ بجوهر العقيدة. ولا ينجو من ذلك إلاّ من توقّف دون الخوض في الغيب. فعالم نحرير بحجم الشّيخ الشّعراوي -رحمه الله- طوّحت به خواطره في سوانح الكشْف ولطائف أنوار الفيْض، فقال: “علينا أن نفرّق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرّسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده، لأنّ الرّسول يأتي بأحكام ظاهريّة تتعلّق بالتّكاليف (افعل كذا ولا تفعل كذا)، لكنْ هناك أحكامٌ أخرى غير ظاهرة لها عللٌ باطنة فوق العلل الظاّهرة! وهذه هي التي اختصّ بها هذا العبد الصّالح (الخضْر) كما سمّاه النّبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-. والدّليل على ذلك أنّ النّبيّ يأتي بأحكام تحرّم القتل، وتحرّم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السّفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى –عليه السّلام- على هذه الأعمال لأنه لا علم له بعلّتها، ولو أنّ موسى –عليه السّلام- علم العلّة في خرْق السّفينة لبادر هو إلى خرْقها”. ا.هـ.
كلام مقبول منه كمقدّمة، ولكنّ خياله شطح به عند استخلاص النّتيجة التي كان عليه توضيحها أكثر أو التّوقّف عند ما سماه بـ”كيس الولاية” و”كيس الرّسالة” بقوله: “علْم موسى –عليه السّلام- غير علْم الخضر: فهذا علم ليس عندك؛ فعلمي من كيس الولاية وعلمك من كيس الرّسل! وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإنْ كان لعلم الولاية عللٌ باطنة ولعلم الرّسالة علل ظاهرة” (تفسير الشّعراوي: 14- 8954 وما بعدها).