-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

غزوات الربيع العربي!

غزوات الربيع العربي!

ما كان أحدٌ يتوقع أن يُسقِط تجمُّعٌ شعبي غاضب، أركان نظام متحصن بقدرات دولة في بضع ساعات على وقع صرخات “ارحل” وصل صداها إلى قصر رئاسي، فيحزم الرئيسُ حقائبه ويغادر البلاد على عجل.

نوبات الغضب الشعبي حصيلة رفض متراكم، لإدارة نظام ما، لم يرتق إلى طموح شعب في انتعاش اقتصادي- اجتماعي في ظل استقرار أمني، لن تبلع مستوى “الثورة الشعبية” في غياب شروط نشوبها.

الغضبُ الشعبي لم يكن محرِّكا يكتفي بذاته، في إعلان “ثورة شعبية” تُسقِط هياكل نظام قائم، يمتلك مستلزمات بقائه، وحماية وجوده المرتبط بهيبة الدولة وحصانة وجودها من أيِّ هزة.

يؤدي غياب شروط “الثورة الشعبية” إلى فوضى لا يقوى أحدٌ على التحكم بها، تأكل أبناء الشعب الواحد، وتشتِّت بقاياه، في غياب نظام لم يجد أمامه غير أولوية إعادة الاستقرار، والحفاظ على ديمومة بقائه، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية.

يسارع الإعلامُ أحيانا على غير هدى، فيطلق عناوينه في توصيف أحداث لا تتطابق مع حقيقة مضامينها، محاولة منه لاختصار تسمية الحدث وإلصاقه بذهن الرأي العام، وفرض تبنِّيه في الخطاب السياسي.

الغضب الشعبي الذي أسقط نظام الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، هبَّة جسدت آمال شعب بمجيء نظام جديد يجسد طموحه، لم يتشكل بعد، وإن يتشكل على أنقاض نظام زائل، فلا يحمل بيده برامج الإصلاح الشامل، غير المُعَدّة أصلا، في حركة مفاجئة أسقطت نظاما، وتركت بسقوطه فراغا ينتظر من يشغله.

لا تسير الثورات الشعبية على غير هدى، فقد يكون من السهل إسقاط نظام حاكم، لكن من الصعب بناء نظام جديد بشكل مفاجئ، يفتح الباب لصراع قوى سياسية غير متجانسة، تجد أمامها الفرصة لإدارة زمام الدولة.

“ثورات الربيع العربي” وفق التسمية التي أطلِقت على حَراك شعبي عفوي، لا يسترشد بقيادةٍ لها برامج بناء وقواعد تنظيمية، أسقط الأنظمة في تونس والقاهرة وطرابلس، وفشل في عواصم عربية أخرى، بقي فيها النظامُ الحاكم قائما وسقطت الدولة وتمزقت وحدتها، وشُرِّد شعبها.

فشلت مؤسسات النظام التونسي في إعادة تأهيل وجودها بعد إجبار الرئيس زين العابدين بن علي على مغادرة البلاد في 14 جانفي 2011، مع غياب بديل يُرضي شرائح الشعب في عنفوان انتفاضته، فدخلت القوى السياسية المغيَّبة فيما مضى لشغل الفراغ في المؤسسات الحاكمة، رغم انعدام تجانسها، فسعت إلى إبرام تحالفات تكتيكية فككتها الأزمات السياسية المتلاحقة، فأسست واقعا اقتصاديا واجتماعيا مترديا، أفرز تحديات أمنية خطيرة.

فتح الحَراك الشعبي في ليبيا، الباب لتدخل خارجي انتهى بإسقاط النظام والدولة معا، ومزَّق وحدة أراضيها، وأفقد اليمنَ وحدته، وعُزلت العاصمة صنعاء بحكم فصائل الحوثي الموالية لإيران، وترك الصراع على مضيق باب المندب مفتوحا، وأدخل سوريا الموحدة في حرب أهلية وتقاسمت قوى دولية وإقليمية وتنظيمات إرهابية أراضيها.

بعد عقدٍ على مرور “ثورات الربيع العربي” لم تعُد تسميتها ذات أهمية، فالأمر أضحى أمنية العودة إلى ما قبل نشوبها، لما جلبته من مساوئ عبَّدت الطريق لغزوات خارجية، تحصد بقايا وجود شعوب أدركت أن حقها في الحياة مازال بعيدا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!