غياب فقه الواقع إذْ يزري بالداعية

في عزّ شهر “رمضان” الذي يَعرف عنه الصغير قبل الكبير والجاهل قبل المتعلّم أنّه شهر جهاد وفتوح وانتصارات في تاريخ الأمّة الطّويل، كان يفترض في العلماء والدّعاة أن يحيوا في الأمّة هذه الحقيقة المهمّة، ويجتهدوا في جعلها هما يحمله كلّ مسلم وهدفا يسعى لتحقيقه في نفسه وأمّته، ليس فقط بالولاء لسادة الأمّة المجاهدين في أكناف بيت المقدس والدّفاع عنهم، إنّما بالبحث عن كلّ الوسائل الممكنة لمشاركتهم رباطهم وجهادهم، بالأنفس والأموال. هذا هو المفترض في حقّ علماء الأمّة ودعاتها، وهو الواجب الذي قامت به ثلّة منهم، ولكنّ ثلّة أخرى أبت إلا أن تصطفّ في الطّرف الآخر حيث الخذلان والمسارعة في اليهود! لا بل إنّ بعضهم رضوا لأنفسهم بأن ينخرطوا في مخطّط تصفية المقاومة!
في الأيام الماضية، تداعى ملايين المسلمين الذين لم يُحرّف الاصطفاف الطائفي فطرتهم لاستنكار كلمات الداعية الكويتي “عثمان الخميس” التي وصف فيها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بأنّها “منحرفة” وتسير في طريق سيّئ.. وكان يفترض في الشيخ السلفيّ! أن يعود أدراجه ويراجع كلماته، وهو يرى أمّة الشهادة تتداعى للدفاع عن رجال يذودون عمّا تبقّى من شرف الأمّة، ويواجهون العالم دفاعا عن الأرض المباركة، لكنّه فخرج في حلقة جديدة من بودكاست يقدّمه الإعلاميّ السعودي “علي العلياني” (!) ليؤكّد ما قاله من قبل ويصرّ على وصف “حماس” بأنّها منحرفة! وهو بهذا يقدّم الدّليل على أنّ ما تفوّه به قبل ذلك لم يكن زلّة لسان، إنّما كان موقفا مقصودا!
لسنا نتّهم الشّيخ في نيته، فسابقته تأبى علينا ذلك، ولكن من حقّنا أن نشكّ في أنّه استدرج من طرف بعض الجهات الإعلامية وحتى السياسية ليُعلن هذا الموقف في هذا الوقت بالذّات، والذين استدرجوه استغلّوا حماسته الكبيرة في مواجهة المشروع الإيرانيّ الطائفيّ، ودخلوا عليه من هذا الباب ليبلغوا به حيث بلغ، ويعلنوا على لسان الشيخ “البشوش” موقفا يريده مدمنو التطبيع واللاهثون خلف مخطّط تصفية المقاومة في غزّة.
الوقت الذي أعلن فيه “الخميس” هذا الموقف مقصود بعناية، لأنّ جحافل المطبّعين والخانعين أمام سيّد البيت الأبيض، قد انطلقت –رغبا ورهبا- بعد أن تلقت الأوامر بضرورة استنفار رجال السياسة والإعلام والدّين لتهيئة الرأي العام الإسلاميّ لقبول مخطّط افتكاك قطاع غزّة من أيدي المقاومة ووضعه بأيدٍ يرتضيها المحتلّ الصهيونيّ ويأمن جانبها؛ انطلقت في سعي حثيث لاستنطاق كلّ من يمكن أن يطمس البريق الذي حظي به رجال القسّام منذ بدء طوفان الأقصى وسطع أكثر في عمليات تسليم الأسرى الصهاينة، والحجّة التي تُعرض هي أنّ التخلّص من المقاومة هو الحلّ هو البديل الأنسب لخطّة ترامب القاضية بتهجير سكّان القطاع إلى خارج فلسطين! ولذلك يسعى المستنفَرون إعلاميا ودينيا للعزف على نغمة “حماس لا تمثّل سكّان القطاع، وينبغي التفريق بين حماس وأهل غزّة الذين يريدون أن يعودوا إلى حياتهم الطبيعية”!
قديما، كان أهمّ ما يميّز علماء الأمّة هو اتّقاد ذكائهم واستعصاؤهم على الاستغلال والتوظيف، لكنّ كثيرا من علماء الأمّة في هذا الزّمان ينقصهم الذّكاء ويفتقرون لفقه الواقع، ويسهل على الجهات السياسية توظيفهم لخدمة الخيارات التي تتبناها وإيصال الرسائل التي تريد إيصالها، وبعضهم ضعفت هممهم وآثروا السلامة على حساب قضايا الأمّة المصيرية، فتراهم يجتهدون في إيجاد المبررات “الشرعية” للمواقف التي يميل بهم ضعفهم إلى اتخاذها.