-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فإنّها لا تعمى الأبصار…

سلطان بركاني
  • 965
  • 0
فإنّها لا تعمى الأبصار…

في السادس من شهر شوال الجاري، رحل عن دنيا النّاس القارئ المصري الشابّ عبد الله كامل؛ هذا الداعية الموفّق الذي لم يطرق اسمه أسماع أكثر شباب هذه الأمّة؛ فهو لا يملك في الأرض شهرة تضاهي شهرة نجوم كرة القدم، لكن عساه يكون من المشهورين في السّماء.. ولعلّ أكثر ما يشدّ الانتباه في سيرة وحياة الراحل، علوّ همّته واتقاد عزيمته وسعيه الحثيث لوضع بصمته في الحياة، رغم أنّه ولد كفيفا لا يرى شيئا من هذه الدّنيا، وعاش كفيفا، ورحل كفيفا.
ولد عبد الله كامل كفيفا، لكنّ ذلك لم يحل بينه وبين تحصيل أعظم فخر في هذه الدّنيا، حفظ كلام الله. أبى إلا أن يكتب اسمه في سجلّ أهل القرآن أهل الله وخاصّته، وأتمّ حفظ القرآن الكريم بطريقة البرايل في سنّ مبكّرة.. وحاز المركز الأول عند مشاركته في مسابقة المزمار الذهبي للعام 2015م.. لكأنّه يبعث برسالة ملهمة إلى أبناء وشباب الأمّة أنّ الإعاقة ليست إعاقة البدن، إنّما هي إعاقة الهمّة؛ كفيف يحفظ القرآن ويتقن تلاوته بالأحكام بل ويصلي بالأصحاء المبصرين إماما.. بينما ملايين المبصرين من شباب الأمّة لا يتقن أحدهم حفظ حزب واحد من كتاب الله يصلّي به؟! فما هو عذرهم؟! سأل أحد السلف طالبا عنده: أتحفظ القرآن؟ قال الطّالب: لا. قال: “سبحان الله! مؤمن لا يحفظ القرآن! فبم يتنعم؟! فبم يترنم؟! فبم يناجي ربه؟!”.
عبد الله كامل، على الرغم من ابتلائه بفقد نعمة البصر، إلا أنّه تدرّج في دراسته، وكان من الناجحين والمتفوّقين، ودخل كلية دار العلوم بجامعة الفيوم، وتخرج فيها وهو لم يتجاوز العشرين من عمره.. وفي هذا رسالة أخرى إلى كثير من أبناء وشباب الأمّة الذين يتعلّلون ويجدون لأنفسهم من الأعذار أوهاها ليتركوا دراستهم أو يرضوا فيها بالمراتب المتأخّرة والمعدّلات المتواضعة.. شعارهم الحاضر دائما: “ما بقاش قرايا.. واش من قراية.. واش فايدة القراية”!
اهتمّ عبد الله كامل، المسلم الكفيف، بلغة القرآن، وبرع فيها، حتّى أصبح شاعرا يكتب القصائد الرائعة في نصرة دينه وقضايا أمّته، وجابت قصائده الأرض كلّها، وقدّم كثيرا منها أناشيد ترقّق القلوب وتشحذ الهمم.. هكذا كان “كامل” الكفيف، بينما كثير من شبابنا يمتّع الواحد منهم بكلّ حواسه، ومع ذلك تجده جاهلا بلغة القرآن، لا يستطيع أن يكتب طلبا خطيا فضلا عن أن يكتب مقالة، ولا يستطيع أن يتكلّم دقيقة واحدة بلسان عربيّ مبين!
عرف “كامل” الطّريق الصّحيح الموصل إلى رضوان الله، فأعدّ راحلته واستعدّ مبكّرا، وامتطى صهوة جواده، وانطلق إلى وجهته، وكان شُعلة متقدة في العمل لدين الله، وكان بفضل الله سببا في هداية الآلاف من الحيارى.. قدّم لدين الله ما لم يقدّمه كثير من الأصحّاء أمثالنا الذين رضوا بأن يعيشوا على هامش الحياة.. الواحد منّا ولد ومعه كلّ حواسّه، ونشأ وترعرع وبلغ سنّ الشّباب، وأشرف على سنّ الكهولة أو تجاوز؛ يعيش عقودا من الزّمن في هذه الدّنيا، ولا يقدّم لدينه شيئا.. بل ربّما وهو في سنّ الشّباب وسنّ الكهولة وحتى في سنّ الشّيخوخة لا يزال يصارع نفسه الأمّارة بالسّوء؛ لا يزال يخلط الحرام بالحلال، يتثاقل في صلاته، ولا يصوم إلا رمضان وستا من شوال، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، بل ربّما لم يستطع التأثير في أفراد أسرته.. لا وزن ولا قيمة له في بيته ولا في حيّه.
ما من عبد في هذه الحياة إلا وقد حباه الله من المواهب والنّعم ما يمكنه من نفع نفسه وخدمة دينه وأمّته، لكنّ كثيرا من المسلمين يسخّرون مواهبهم في خدمة دنياهم ودنياهم فقط، ومنهم من يضيّع مواهبه ويقتلها ويدفنها، ويرضى لنفسه بالدنية، وبالعيش صفرا على الشّمال.. الله الكريم لا يأخذ من عبده نعمة إلا وأبدله نعما أخرى مكانها، ولكنّ همّة العبد هي ما يصنع الفرق.. هناك من ينظر إلى النّعمة المفقودة ويقضي حياته شاكيا باكيا متذمرا، ويرحل عن هذه الدّنيا ومواهبه معطّلة، ليوقَف يوم القيامة للسؤال عمّا قدّمه وعمّا سخّر فيه النّعم التي حفظها الله له، فلا يجد للسّؤال جوابا.. وفي مقابله، هناك من ينظر إلى النّعم المحفوظة ويسعى في تسخيرها لخدمة نفسه ودينه وأمّته، ويرحل وقد ترك من خلفه أثرا واضحا في دنيا النّاس.
قصّة الداعية عبد الله كامل تعلمنا أيضا أنّ الأعمار ببركتها، وليست بطولها.. لم يعش الداعية الراحل في هذه الدنيا سوى 38 سنة، عاشها كفيفا لا يبصر، لكنّ اسمه جاب قارات العالم كلّها.. حفظ القرآن الكريم، وتعلّم تلاوته، وكتب الأشعار في نصرة دينه، وقدّم مئات الدروس والمواعظ، وتنقّل في بلدان عدّة يدعو إلى الله.. كلّ هذا ولم يبلغ الأربعين.. فماذا عن أعمارنا؟ ماذا قدّمنا في السّنوات والعقود التي عشناها؟ لو رحل الواحد منّا الآن، ما هو الأثر الحسن الذي يتركه خلفه؛ بأيّ شيء سيذكره النّاس بعد أن يواروه التراب؟ بسعيه في إيصال الخير إلى الآخرين؟ بصدقاته التي كان يبذلها؟ بإصلاحه بين المتخاصمين؟ بتسامحه في حقّه؟ بحرصه على الصفّ الأوّل؟ بقوله كلمة الحقّ؟ بحرصه على لقمة الحلال؟ بحفظه العهود والوعود؟
سيرة الداعية عبد الله كامل تعلّمنا كذلك أنّ من عاش لله أحسن الله خاتمته وجعلها على ما يحبّه -سبحانه- ويرضاه.. “كامل” عاش لدينه وأمّته، فكان يومه الأخير من الدّنيا لله ولدين الله.. يروي مرافقه عن آخر الساعات في حياة الشيخ عبد الله كامل فيقول: “صلينا الفجر معا في مسجدنا وألقى كلمة مؤثّرة بعد الصلاة، ثم جلست وإياه في بيتي نقرأ ونتذاكر من الفجر حتى صلاة الظهر، ما توقفنا إلا للطعام، وكانت جلسة لم أجلس مثلها… كنا نقرأ ونتذاكر ونمزح ونضحك أحيانا ونتأثّر ونبكي أحيانا أخرى، وأذكر أنه خطرت له خاطرة في سورة التكوير فبكى بكاءً شديدًا، وخاطرة عن سنّ الأربعين فتأثّر تأثّرا بليغا… عند صلاة الظهر طلب مني أن أتقدم للصلاة فأبيت إلا أن أقدمه فتقدم فصلى بنا، وبعد الصلاة قال بعضنا لبعض: لنسترح قليلا ثم نواصل.. استرحنا، وقمت من الاستراحة، وذهبت لأوقظ الشيخ عبد الله كامل فإذا روحه قد صعدت إلى بارئها”.
خاتمة نحسبها حسنة، تنطق صادحة أنّ من عاش على شيء مات عليه.. وأنت أخي المؤمن، كن على يقين بأنّك أنت من يرسم نهايتك بإذن الله، بحسب الهمّ الذي تحمله، وبحسب العمل الذي يشغل أكثر أوقاتك.. فإن كانت طاعة الله هي همّك الأكبر متّ على طاعة، وإن كانت الشهوة الفانية هي همّك الأكبر متّ على شهوة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!