فهل من مُذكِّر؟

استمعت إلى الرئيس الأول للجزائر المستقلة المرحوم أحمد بن بلة في إحدى تصريحاته قبل وفاته بفترة قليلة، قال فيها (شربُ قهوة في مغنية أَحَبُّ إليّ من كل مكان في العالم) وعدَّد بعض المدن والعواصم العالمية التي يقصدها الكثير من الناس.
قال عبارته هذه بكلمات مشحونة بعاطفة جيّاشة، وبنبرة مليئة بالوّد لا تُخطئه عواطف المُحبِّين ممّن صمدوا في وجه المستدمر وذاقوا ويلاته سنين طوالا.
نحتفل سنويا بمناسبتين وطنيتين عظيمتين، هما تاريخ انطلاق الثّورة المجيدة، وتاريخ استرداد السيادة الوطنية، ونُعِدّ لذلك برامج مليئة بالنشاط السياسي والثقافي والاجتماعي، وهو أمر مرغوب ومحمود ما دام خاليا من الإسراف والتبذير. والواقع أنّ الأولوية -بعد الحفاظ على الوحدة الشعبية والتُّرابية للبلاد- هي تحقيق حلم الشهداء في جزائر حرّة مستقلة وضامنة لحياة كريمة لشعبها.
هذا الهدف العظيم لا يتحقق بالشّعارات ولا بالتّمني ولا بالوعود الانتخابية التي تتبخّر بعد اكتمال كلّ موعدٍ انتخابي.
والمطلوب بصراحة ووضوح هو:
1 / الوفاء لقيم الثورة، وذلك بالتّمكين عمليا للدولة المُعَرَّفة في بيان أول نوفمبر.
2 / ولمّا كان الشّعار إبّان الثورة هو (الشعب وحده السّيد) وجب تصحيح مسار الخيار الشعبي وتحريره من الوِصاية.
3 / بناء نظام سياسي للسلطة يعتمد المؤسسات لا الأشخاص، وتأسيس هذا النّظام على قاعدة التوازي والتوازن والتكامل حتى نضمن الإبحار الآمن في محيط دولي يسخو بالعواصف والتقلبات.
4 / اعتماد تصوُّر ورؤية بعيدة المدى يكون معها التداول على السلطة خادما لها بالتحسين والإضافة، لا بالإلغاء والهدم والتشكيك.
5 / الاحتكام دائما للخيار الشعبي السّيد وللقانون في ظلّ عدالة صارمة مستقلة ومقتدرة.
6 / تنقية الطبقة السياسية من المتزلّفين وصيادي الفُرص ومُضلّلي الرأي العام بضبط قواعد صارمة للعمل السياسي وتمكينه فعلا من حرية التعبير والتّنظيم، وتحميله مآلات تصرفاته وتصريحاته ومواقفه.
تلكم هي أهم المبادئ والأهداف الضرورية لخارطة طريق هادفة إلى ترسيخ قواعد دولة لا تزول بزوال الرِّجال.
نحن نحتفل كل عام بعيدَيْ الثورة والاستقلال، وبقدر ما نعتز بوطننا ونفتخر بشعبنا وتاريخنا، نتحسر على عجزنا البَيِّن في تتويج المناسبتين بجزائر تُسابِق الزمن بتنمية حضارية شاملة تكون فيها وبها قدوةً لمحيطها الدولي كما كانت ثورتُها نبراسا تحريريا له.
إنّ الوقت وقتُ جدٍّ لا مكان فيه للتّغني بالشعارات التي تصمُّ آذاننا كل يوم. لقد ظهرت بوادر الملل لدى الرأي العامّ من تكرار عبارات مثل “أول مرّة منذ الاستقلال” أو “أول مرّة على المستوى الإفريقي والعربي” أو “البلد الوحيد في العالم الذي فعل كذا وكذا”.
إنّ مثل هذه الشّعارات هي مثل مُسكِّنات الألم التي لا تُفضي إلى شفاء المريض بل قد تزيد من خطر انهيار صحته.
أنشد شاعر الثورة قائلا:
إنّ الجزائر قطعة قدسية
الشعب حرّرها وربُّك وقَّعا
ما زالت هذه الجزائر أمانةً قُدسية وجب على الشعب أن يعمل على ترسيخ تنميتها في كل المجالات بعزيمة وصدق واقتدار وتفان وإنكار ذات حتى يكتب الله على أيدينا إعادة بعث مجد أمّتنا وريادتها.
إنّ ما قاله الرئيس الراحل أحمد بن بلّة رغم بساطته وعفويته هو رسالة لكل أبناء هذا الوطن ليجعلوا منه أفضل مكان للعيش الكريم.
وما أريد إلّا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلّا بالله.