-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فوكوياما ينتصر على فوكوياما

الشروق أونلاين
  • 1645
  • 0
فوكوياما ينتصر على فوكوياما

بقلم‮: ‬ابن‮ ‬خلدون
فكر المحافظين الجدد تحوّل إلى مأزق للنظام الديمقراطي الرأسمالي بوقوعه فريسة الانتصار على الشيوعية وشعوره بنشوة الإحساس بالقوة، ومن ثم الانغماس في العسكرة. لم يفهم المحافظون الجدد أن الاتحاد السوفياتي سقط وهو في أوج قوته العسكرية وليس نتيجة هزيمته عسكريا…‮!‬كثيرا ما أعجب بعبقرية الياباني، لكن إعجابي به يزداد حين أراه يتراجع عن عبقريته ليصحّح أخطاءه دون خوف من اهتزاز صورته أو مكانته، ولي في هذا المقام مثالين، الأول يتعلق بالمفكر والروائي جونيشيرو تانيزاكي الذي انبهر بالحضارة الغربية غداة الحرب العالمية الأولى، وأظهر هذا الانبهار في روايته “في تمجيد الظلال” In Praise Of Shadows، إلى درجة أنه فرح للزلزال الذي ضرب طوكيو عام 1923 لأنه رأى فيه فرصة لإعادة بناء المدينة على طراز باريس ونيويورك. وجسد تانيزاكي هذا الانبهار بالزواج والعيش على الطريقة الغربية، لكن حين تساءل اليابانيون في عز الحرب العالمية الثانية في ملتقى عقدوه في جامعة كيوتو تحت عنوان “الانتصار على الحداثة ” وحاولوا الإجابة على السؤال: ما الذي وصلت إليه اليابان بنقلها عن الغرب؟ أدرك تانيزاكي خطأه وقام بانتقاد نفسه في روايته “غرام الأحمق” A Fool’s Love التي‮ ‬سخر‮ ‬فيها‮ ‬من‮ ‬حماقاته‮ ‬السابقة،‮ ‬وهذا‮ ‬ما‮ ‬أكسبه‮ ‬التقدير‮ ‬والاحترام‮.‬

كاتب ومفكر آخر ذو أصول يابانية ولكنه تأمرك (صار أمريكيا) ذاع صيته لكونه أصبح صاحب نظرية يقود من خلالها حكام البيت الأبيض العالم بأسره، إنه فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ، التي خرج بها على العالم من خلال استقراء حدثين تاريخيين هامين هما سقوط الشيوعية، والثورة التكنولوجية وما رافقها من ظهور للأسلحة الذكية وأسلحة التحكّم عن بعد والتصويب الدقيق، لهذا رأى الكثيرون في كتاب نهاية التاريخ بأنه جاء كمرثية لا تخلو من التشفي لانهيار المعسكر الشرقي والإشادة بانتصار المعسكر الرأسمالي وتكريس الولايات المتحدة قطبا‮ ‬محوريا‮ ‬مهيمنا‮ ‬على‮ ‬العالم‮.‬

هذا المفكر حدثت له قصة قلبت كل قناعاته رأسا على عقب، ففي ليلة باردة من ليالي فبراير 2004 كان فوكوياما أحد المدعوين لحفل أقامه المحافظون الجدد، يومها وقف المحلل السياسي تشارلز كروثامر ليخطب في الحضور عن النجاح المنقطع النظير الذي حققته أمريكا في العراق وسط تصفيق حار من الحضور وسعادة غامرة وغرور يغشي الجميع، يقول فوكوياما عن الشعور الذي انتابه لحظتها: “لم أستطع أن أفهم سر هذا التصفيق المتأجج حماسا من حولي، خاصة وأن أمريكا لم تعثر على أي أسلحة دمار شامل في العراق، ومن ثم فقد وجدت نفسها منغمسة في ورطة حافلة بالمتمردين،‮ ‬بل‮ ‬وكادت‮ ‬تعزل‮ ‬نفسها‮ ‬تماما‮ ‬عن‮ ‬بقية‮ ‬العالم‮ ‬بسبب‮ ‬ما‮ ‬عمدت‮ ‬إلى‮ ‬اتباعه‮ ‬من‮ ‬ذلك‮ ‬النوع‮ ‬من‮ ‬سياسة‮ ‬القطب‮ ‬الواحد‮ ‬التي‮ ‬دعا‮ ‬إليها‮ ‬كروثامر‮ ‬في‮ ‬الكلمة‮ ‬التي‮ ‬ألقاها‮ ‬على‮ ‬مسامع‮ ‬الحاضرين‮”.‬

يومها أدرك فوكوياما أن فكر المحافظين الجدد الذي بنى على كتابه نهاية التاريخ تحوّل إلى مأزق للنظام الديمقراطي الرأسمالي بوقوعه فريسة الانتصار على الشيوعية وشعوره بنشوة الإحساس بالقوة ومن ثم الانغماس في العسكرة. لم يفهم المحافظون الجدد أن الاتحاد السوفياتي سقط‮ ‬وهو‮ ‬في‮ ‬أوجّ‮ ‬قوته‮ ‬العسكرية‮ ‬وليس‮ ‬نتيجة‮ ‬هزيمته‮ ‬عسكريا‮…!‬

إن فكر المحافظين الجدد الذي أسماه بول وولووفيتز أحد صقور البنتاغون ورئيس البنك الدولي الحالي وآلان بلوم أستاذ فوكوياما الذي بدوره كان تلميذ ليو شتراوس رأس مدرسة المحافظين الجدد الذي هاجر من ألمانيا، وبشّر بفكر هذه المدرسة حين أصدر كتابه الشهير ” إغلاق العقل الأمريكي” لم يكن أصحاب هذه المدرسة ربما يعتقدون أنه حين يحين وقت وضع فكرهم موضع التنفيذ على الساحة السياسية سيكون على رأس الإدارة الأمريكية أغبى رئيس تعرفه الولايات المتحدة في تاريخها، لذا فإنه سوف يسيء فهم فكر المحافظين الجدد ويسيء تطبيق نظريتهم. فقد طغى‮ ‬الطموح‮ ‬إلى‮ ‬تغيير‮ ‬العالم‮ ‬ولو‮ ‬عن‮ ‬طريق‮ ‬الفوضى‮ ‬المنظمة‮ ‬واستعمال‮ ‬القوة‮ ‬المفرطة‮ ‬للآلة‮ ‬الحربية‮ ‬الأمريكية،‮ ‬ولم‮ ‬يكن‮ ‬هذا‮ ‬ليرضى‮ ‬فوكوياما‮ ‬الذي‮ ‬يجري‮ ‬الدم‮ ‬الياباني‮ ‬في‮ ‬عروقه‮.‬

لقد سعى بوش وفريقه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 تحت غطاء فلسفة المحافظين الجدد إلى التراجع عن النظر باحترام لكل من مسألتي السيادة القومية وتقرير المصير. وهذا التراجع جسّدته القوة الجوية الضاربة للولايات المتحدة التي تخلصت في نهاية الألفية من عقدة فيتنام. فحرب يوغوسلافيا السابقة والتي أفضت لأول مرة إلى صفر خسارة في صفوف القوات الأمريكية مثلت المسمار الأخير في نعش “عقدة الفيتنام”، لهذا ظن المحافظون الجدد من جماعة بوش أن حرب كوسوفو 1999، من السهل تكرارها في أفغانستان وبعدها في العراق، معتمدين في ذلك على ما أسماه المؤرخ العسكري الأمريكي روسيل ويلي بالأسلوب الأمريكي في الحرب الذي يقوم على القوة الضخمة، التكنولوجيا المتقدمة والانتصار الشامل. وكان من نتيجة ذلك الدمار والخراب الكبيرين اللذين لحقا بكل من أفغانستان والعراق، دمار تعدى جرائم الحرب التي حوكم عليها النازيون وحوكم‮ ‬لأجلها‮ ‬ميلوزوفيتش،‮ ‬لكن‮ ‬الضمير‮ ‬الدولي‮ ‬لا‮ ‬يزال‮ ‬نائما،‮ ‬أو‮ ‬قل‮ ‬لا‮ ‬تزال‮ ‬الجرأة‮ ‬تنقصه،‮ ‬فما‮ ‬كان‮ ‬من‮ ‬فوكوياما‮ ‬إلا‮ ‬أن‮ ‬تجرأ‮ ‬على‮ ‬ما‮ ‬لم‮ ‬يتجرّأ‮ ‬عليه‮ ‬غيره‮.‬

وهكذا وبعد مرور أربعة عشر عاما على صدور كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير الذي قال فيه إن الصراع حسم نهائيا لصالح الليبرالية وصولا إلى نهاية التاريخ، يتراجع فوكوياما في كتابه الجديد عام 2006 “أمريكا في مفترق الطرق… الديمقراطية والقوة وميراث المحافظين الجدد‮”‬‭ ‬ويوجّه‮ ‬لطمة‮ ‬قوية‮ ‬للإدارة‮ ‬الأمريكية،‮ ‬بإعلانه‮ ‬الانشقاق‮ ‬عن‮ ‬حركة‮ ‬المحافظين‮ ‬الجدد‮ ‬كرمز‮ ‬سياسي‮ ‬وكيان‮ ‬فكري،‮ ‬والتي‮ ‬تطورت‮ ‬إلى‮ ‬شيء‮ ‬لا‮ ‬أستطيع‮ ‬بعد‮ ‬الآن‮ ‬تأييده‮ ‬كما‮ ‬يقول‮ ‬فوكوياما‮. ‬

فوكوياما مثله مثل تانيزاكي من طينة المفكرين الذين يقدّرون الحقيقة ويحترمونها، ويجهرون بها ولو جاءت مخالفة لمعتقداتهم وأرائهم التي صنعت لهم مجدا وشهرة، لهذا لما رأى أن إدارة الرئيس بوش ذهبت بعيدا في استثمار أفكاره، لم يرد لتلك الأفكار الاستمرار في توفير الغطاء الفكري والإيديولوجي، الإدارة ترجمت طروحاته إلى أجندة سياسية أباحت للولايات المتحدة وحدها ودون غيرها حق التدخل العسكري والإطاحة بأي نظام وطني ترى أنه يهدر قيم الديمقراطية ويهدد الاستقرار العالمي تحت غطاء القيام بمسؤولياتها كقوة عظمى منوط بها الأمن والسلام الدوليين. فوكوياما أراد أن يفضح الإدارة التي أخلت بالأمن والاستقرار الدوليين تحت مسمى الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين، وهي شجاعة فكرية وسياسية يحسد عليها أمثال تانيزاكي وفوكوياما لأن بحثهم عن الحقيقة يفوق كل مكسب سياسي.

في عالمنا العربي وقفت على حالة مشابهة تراجع فيما مفكر مشهور عن مواقفه الفكرية والسياسية. وقد لا تكون هذه الحالة الوحيدة، وهي لم تكن لأجل الحقيقة على أية حال. صاحبنا العربي والذي ما هو إلا الكاتب الكبير توفيق الحكيم الذي غرف من الناصرية وفكرها حتى الثمالة، فلما توفى عبد الناصر انقلب عليه في كتابه “عودة الوعي” الذي زعم فيه أنه عاش فاقدا للوعي على أيام الناصرية. توفيق الحكيم جعل أفكاره تجاري المشيئة السياسية السائدة، أما فوكوياما فجاءت مواقفه لتناقض ذات المشيئة السياسية السائدة.

تانيزاكي وفوكوياما تراجعا عن أفكارهما لأجل الحقيقة وتوفيق الحكيم تراجع عنها لمكسب سياسي وخدمة للساداتية التي قادتنا صاغرين نحو كامب ديفيد. وهذا هو الفرق الذي يبعث فينا الإعجاب بطرف والازدراء للطرف الآخر. وهو الفرق الذي يجعلهم الفاعلون ويجعلنا المفعول بهم وفيهم‮.‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!