في زمن رياس البحر.. مليون أوروبي استعبدوا في الجزائر

عاشت الجزائر قرونا عدة حقبة من الازدهار والقوة، لم يكن يضاهيها فيهما أي بلد في المعمورة كلها، هو زمن رياس البحر. أما الأوروبيون، فقد كانوا يطلقون عليه زمن القرصنة. سموهم ما تشاؤون، لكن سيذكرون فقط أنهم كانوا حينها لا يملكون حريتهم، ولا صوت لهم سوى صوت الدنانير التي كانوا يشترون بها في أسواق المحروسة.
كانت الجزائر، ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، تعيش أوج قوتها. وكانت المحروسة تسمى عاصمة الجهاد، لأنها كانت جدار الصد ضد كل الحملات الصليبية التي كانت تطال سواحلها، وسميت المحروسة المحمية بالله، لا من عدم، لكن من صمودها في وجه شاركان وأمثاله.
وصلت سفن رياس البحر إلى كل مكان، فوطئت أقدامهم شواطئ بريطانيا، بداية من عام 1600م وإيسلندا وإيرلندا ومصبّ نهر الألب، بحسب مؤرخي هامبورغ. هذه الهيمنة البحرية الجزائرية على بحار أوروبا، أجبرت معظم الأساطيل الأوروبية على دفع الإتاوات للجزائر، لتأمين مرور سفنها وبحارتها الذين كانوا يتعرضون للأسر في الكثير من الأحيان. وقد وصل عددهم بحسب بعض الإحصائيات إلى مليون أسير.
عبيد من السحنة البيضاء
داخل أسوار مدينة الجزائر فقط، وهو الحصن الحصين بأبوابه، كان يعيش أكثر من 100 ألف نسمة، خلال منتصف القرن السابع عشر، نصف السكان كانوا مستعبدين وخدما يعملون لدى العائلات الراقية، وكانت مهامهم تتوزع ما بين البستنة وخدمة البيوت من كنس وطبخ وغسل. أما الأسرى الذين كانوا يمتهنون مهن البحر، فكانوا مطلوبين بكثرة للعمل في التجديف على مراكب الرياس، والأشداء منهم يعملون في الحقول والأشغال التي تحتاج إلى عضلات.
كان هؤلاء العبيد، وإن لم يكن المصطلح لائقا، لا يمنحون حريتهم إلا بشروط: إما أن يدفع أحد فديتهم أو يعتنقون الإسلام أو يعتقهم مالكهم، وكان الكثير منهم يختار اعتناق الإسلام، لما رأوه من حسن المعاملة، وإن كان بعضهم ينافق في سبيل الحرية.
الكنيسة لا تثق في أتباعها
يجهل الكثير منا أن الكنيسة آنذاك كانت تخشى على أسراها المسيحيين من اعتناق الدين الإسلامي، لإدراكها سهولة حصول ذلك، فكانت ترسل دوريا رهبانها وقساوستها لتثبيت الأسرى على دينهم.
لم تكن الكفة بين الضفتين متعادلة، فالجزائر بأساطيلها البحرية كانت قوة يحسب لها ألف حساب، ما اضطر العديد من الدول الأوروبية إلى تأسيس صناديق وخزائن خاصة بتحرير الأسرى، أشهرها ربما خزينة مدينة هامبورغ التي ظلت قائمة مدة ثلاثة قرون كاملة محاولة دفع فدية آلاف البحارة المستعبدين في الجزائر.
كان الحمل على هذه الخزينة كبيرا، فأجبرت ألمانيا على توقيع معاهدة سلام مع الجزائر عام 1751. وصكت النقود احتفالا بهذه المعاهدة التاريخية، التي تضمن سلامة سفنها من بطش رياس البحر. سفن فرنسا كانت هي الأخرى تحت طائل السفن الجزائرية، فأنشأت منظمة الثالوث المقدس التي كانت مهمتها التكفل بجمع التبرعات وتسديد الفدية للأسرى الفرنسيين. في هولشتاين الدانماركية، تم تأسيس صندوق خاص بتحرير الأسرى في بداية القرن الثامن عشر.
من الأسر إلى رياسة البحر
كانت أسعار هؤلاء البحارة الأسرى تختلف باختلاف المهارات والقوة الجسدية، ولأن الرياس كانوا رجال بحر بالدرجة الأولى، كانوا يحرصون على اقتناء أوروبيين يجيدون الإبحار والملاحة أو صناعة السفن أو ضرب المدافع.. واستبدل الكثيرون من هؤلاء البحارة حلم العودة إلى مسقط رأسهم بحلم آخر هو رياسة البحر، وكان لبعضهم شرف الانضمام إلى النادي الضيق لرياس المحروسة، من أشهرهم مراد رايس، وهو هولندي الأصل، واسمه جون جانزون قبل اعتناقه الإسلام. وقد شغل أرقى المناصب في البحرية الجزائرية، وهو منصب الأميرال. خمسة من الأسرى من أصل إيطالي، صاروا أشهر من نار على علم، وذاع صيتهم في كل البلاد، هم علي بتشين الذي بنى مسجدا يحمل اسمه، والحاج حسين وكان اسمه ميزو مورتو، وعلي باشا والرايس حسان فينيزيانو، وآخرهم حسن أغا، الذي ارتقى إلى منصب حاكم الجزائر وتصدى لحملة الملك شارل الخامس.
يكفينا فخرا، أن الجزائر لم تكن في يوم من الأيام دولة مستكينة، بل كان يجري في عروق أهلها بدل الدم الحرية والثورة، ثلاثة قرون كانت فيها الجزائر القوة الضاربة في المنطقة والعالم، وما كانت لتبقى كذلك لولا الحملات الممنهجة لإسقاطها، بدءا من مؤتمر إكس لاشابيل إلى غاية احتلالها عام 1830. فاذكري، يا فرنسا، أنك كنت مستعبدة في يوم من الأيام ممن حاولت استعبادهم.