قادة حماس.. بلادُ الله واسعة
مرّة أخرى، يعود الحديث عن غلق مكتب حماس في قطر وطرد قادتها منها، وفي مقدّمتهم خليل الحيّة وخالد مشعل، استجابة لـ”طلب” أمريكي بعد أن رفضوا قبول مقترح وقف مؤقت لإطلاق النار بغزة يجري خلاله تبادل عدد محدود من الأسرى الصهاينة والفلسطينيين.
وكان الحديث عن طرد قادة حماس من قطر، قد أثيرَ بعض الوقت في أفريل الماضي، ثم خفت وتلاشى بمرور الأيام، وبقي قادةُ الحركة هناك، لكنّ وسائل إعلامية عالمية كثيرة عادت للحديث مجدَّدا عن ضغوط أمريكية شديدة مارستها على قطر لدفعها إلى اتخاذ قرار غلق مكتب حماس في الدوحة، ويبدو أنّ للأمر علاقة بفشل الجولة الأخيرة من مفاوضات صفقة تبادل الأسرى التي جرت في أكتوبر الماضي، التي رفضت خلالها حماس قطعا هدنة قصيرة من بضعة أيام كانت الإدارة الأمريكية تريدها لتقديمها للنَّاخبين الأمريكيين كإنجاز ديبلوماسي كبير يعزّز حظوظ المرشَّحة الديمقراطية كاملا هاريس، ما دفع إدارة بايدن إلى الانتقام من الحركة بهذه الوسيلة.
والواقع، أنّ حماس قد أحسنت صُنعا برفض هدنة من بضعة أيام يجري خلالها تبادل بضعة أسرى صهاينة بأسرى فلسطينيين، ثم يستأنف الاحتلالُ حربه الدموية ومجازره في غزة؛ لقد جرّبت الحركة هذا الحلّ في أواخر نوفمبر 2023 من خلال هدنة الأربعة أيام، أملا في أن تكون الهدنة المؤقَّتة مقدِّمة لوقف دائم لإطلاق النار، لكنّ الاحتلال لم يتردّد لحظة واحدة في مواصلة حربه الضروس على غزة بمجرّد أن اكتمل تبادلُ الأسرى المتّفق عليهم، فلماذا تعيد الخطأ نفسه؟
غزّة بحاجة ماسّة إلى وقف شامل لوقف النار، وإغاثة الأطفال والنساء وفكّ الحصار عنهم ولاسيما في شمال القطاع، فضلا عن إعادة بناء ما دمّرته الآلة العسكرية الصهيونية الأمريكية الجهنّمية، وهي العملية التي ستستغرق سنوات طويلة وربما عقودا بالنظر إلى حجم الخراب الهائل في القطاع كلّه، وهي ليست بحاجة إلى هدنة من يومين أو ثلاثة يجري خلالها تبادل بضعة أسرى، فهذه العملية تبدو ثانوية الآن في ظلّ ما يجري لسكان شمال غزة من حصار خانق بدأت معه المجاعة تدقّ أبوابها بعنف وتهدّد حياة عشرات الآلاف من الأطفال والنساء.
لقد أخطأ الصهاينة والولايات المتحدة حينما اعتقدوا أنّ السبيل إلى عقد صفقة أسرى من دون إنهاء الحرب قد أصبح متاحا ويسيرا بعد استشهاد القائد يحيى السِّنوار رحمه الله. آنذاك سمعنا تصريحات عديدة تنمّ عن السطحية وكذا الاستخفاف بمدى صمود حماس؛ إذ زعم أصحابُها أنّ السِّنوار كان عقبة كؤودا في طريق إنهاء الحرب، وأنّ الفرصة باتت مواتية الآن لعقد صفقة تبادل، وكان الصهاينة والأمريكيون يعتقدون أنّ القيادة الجديدة لحماس ستقدِّم تنازلات كبيرة وتقبل شروط الاحتلال لعقد صفقة، لكنّهم صُدموا جميعا حينما لاحظوا في آخر جولة مفاوضات في أكتوبر الماضي أنّ مواقف الحركة ثابتة وشروطها لم تتغيّر وهي: وقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب كامل لجيش الاحتلال من غزة، وعودة سكان شمال غزة إلى بيوتهم وإغاثة القطاع بلا قيود، والاتفاق على خطة لإعادة الإعمار، وعقد صفقة تبادل أسرى مشرّفة.. وأكثر ومن ذلك، رفضت الحركة جملة وتفصيلا مقترحات “الوسطاء” بعقد هدنة قصيرة يجري خلالها تبادل عدد محدود من الأسرى.
ونتيجة صدمة الأمريكيين قبل الصهاينة بصمود الحركة وثباتها على مبادئها وشروطها بعد استشهاد قائدها السِّنوار، بدؤوا يضغطون على قطر مجددا لطردها من الدوحة، ووصلت الوقاحة والصلف والغطرسة بأمريكا إلى درجة أنّ أعضاء في مجلس الشيوخ تقدّموا إلى الدوحة بطلبٍ لتسليم خالد مشعل وخليل الحيّة إلى الولايات المتحدة لمحاكمتهما، وتجميد أصول باقي مسؤولي حماس في قطر، ومنعهم من السَّفر!
ويبدو أنّ قادة حماس، الذين قاوموا الضغوط الأمريكية وضغوط “الوسطاء” العرب 13 شهرا كاملا، مضطرّون هذه المرّة إلى البحث عن البديل، ويتعلّق الأمر بعدّة دول تُطرح كخيارات أمامهم، ومنها روسيا وكوريا الشمالية والصين وفنزويلا وكوبا وجنوب إفريقيا وإيران واليمن وتركيا… فهناك سيكونون في أمان نسبي وبعيدين عن الضغوط المتواصلة التي تمارَس عليهم بلا هوادة منذ أزيد من عام للاستسلام والخضوع للإملاءات الأمريكية والصهيونية. في روسيا مثلًا يمكن لقادة الحركة مواصلة نشاطهم السياسي في جوٍّ يكتنفه الهدوء والأمن والبُعد عن الضغوط الأمريكية وضغوط “الوسطاء” العرب.
قالها خالد مشعل حينما طُرح عليه منذ أسابيع سؤالٌ يتعلق باحتمال “غلق” مكتب حماس بالدوحة: “حسنًا.. بلادُ الله واسعة”.