قراءة راهنية مقاصدية لملاحم رمضان

لم يعد شهر رمضان، كما يحلو لبعض السذج من عامتنا، وصفه به، مجرد فاصلة زمنية، تنتهي بانتهائه.
فقد مضى زمن الأمية الثقافية والأبجدية الذي ران على جماهيرنا، حتى صار البعض يعتقد أنه للتغلب على الصيام في رمضان، يجب أن يقضي المسلم نهاره فيه نائما، وليله هائما.
فَقه المسلمون الأولون، والعلماء المدققون حقيقة الصوم وكنهه، فعمروا أيامه بالجهاد في سبيل نصرة البلاد، ولياليه بالقيام من أجل تصحيح الأفهام.
وتزداد الحاجة اليوم، إلى ضرورة إخضاع تجربة الصوم، إلى التأمل العلمي الدقيق، والتفكير العقلي العميق، لاستخراج ما يحتويه من كنوز وجواهر.
من هنا بات الاستنجاد بالقراءة الراهنية المقاصدية لجهود الأولين في الصوم أمرا ضروريا، لإعادة ترشيد الوعي الإيماني، وتعميق الحكم الرباني.
إن قراءة التاريخ الإسلامي، منذ النشأة الأولى، نجده مزدانا بالملاحم الفاصلة التي غدت لآلئ في حياة المسلمين، مقرونة بشهر رمضان.
والمقدمة السليمة لما تليها من ملاحم، كانت معركة بدر الكبرى، بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك في السنة الثانية للهجرة، إذ نصر الله المسلمين وهم قلة ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾[سورة الأنفال، الآية 9].
وتلتها النتيجة السليمة ممثلة في فتح مكة، بقيادة الرسول أيضا، وذلك في السنة الثامنة للهجرة، إذ كان فتح الحقول والعقول ﴿إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾[سورة الأنفال، الآية 19].
وتوالى على نفس المنوال، تسلسلُ الانتصارات في رمضان، بدءًا بفتح الثكنات، وانتهاء بدور العبادات.
فكان فتح “البويب” قرب مدينة الكوفة، وذلك في العام 13 للهجرة.
وكانت معركة القادسية التي وقعت عام 45 للهجرة.
وفتح الأندلس عام 92 للهجرة، وفتح السند بالهند عام 99هـ، وفتح عمورية التي ارتبطت باستغاثة الأسيرة المسلمة “وامعتصماه” في سنة 223هـ. ومعركة الزلاقة جنوب إسبانيا عام 479هـ، ومعركة عين جالوت سنة 685هـ.
أما راهنيًّا، فقد برز جهاد الجزائر في ثورتنا المباركة، والتي أفتى فيها علماء الجزائر بجواز الفطر في رمضان، أثناء خوض المعارك.
كما كانت معركة العاشر من رمضان، أو معركة العبور وتحطيم خط بارليف من الجيش المصري، في 6 أكتوبر من عام 1973م.
وأخيرا جهاد غزة، بقيادة المقاومة الفلسطينية، في رمضان عام 1445هـ.
إن هذه السلسلة الذهبية من المعارك التحريرية، تؤكد ما لرمضان من فضل على الصائمين الذين يتخذونه ملحمة فاصلة بين التحرير والاحتلال، وبين العدوان والمقاومة، وكلها معارك عادت بالخير العميم على المسلمين، بفضل الإيمان، واستخلاص القيم المقاصدية من الصيام، كجهاد في شموليته ومقصديته.
إن التذكير بهذه المعارك الرمضانية، يقدّم زادا من التقوى، نشحن به الأجيال الصاعدة من أبناء الأمة الإسلامية، ونعدّهم الإعداد السليم لاستقبال رمضان، والقيام في الصيام بواجبات الوطن من صيانة وحدته، وحماية أمنه، والتصدي للعدو، بجميع أساليبه وعدّته.
نقول هذا اليوم بالذات، ليدرك الجميع من حكام ومحكومين، أن العدو بمختلف مواقعه، وإيديولوجياته، قد أعد عدته، وحشر قوته، ويعد هجمته، فماذا نحن فاعلون لدحر طاقته، وتبديد شحنته، وتعميق محنته؟
إن القراءة الراهنية المقاصدية، لفلسفة الصيام، تلقي على عاتق المسلمين جميعا مسؤولية إعادة تصحيح المفاهيم، وحسن التعامل مع الأحكام والتعاليم، والإقبال على الله في رمضان وخارج رمضان، بعزم وحزم، يكون في مستوى المساندة والدعم.
رؤوس الفتنة تطل برؤوسها من أكثر من جهة في أمتنا الإسلامية، وإضافة إلى غزة، وجنين، والقدس، ها هي الشام الجريحة، تعاني من بوادر الفتنة الطائفية.
ولا ننسى السودان، وما يعانيه من تمرّد، وعصيان، وما نتج عن ذلك من تخريب للبنيان، ومن قتل للشيوخ والنسوان، ومن ترويع وتهجير للآمنين من السكان.
وحدّث عن اليمن ولبنان، وما تعانيه أوطان أمتنا في كل حين وآن، وخاصة غزة في رمضان.
متى يفيق قادة أمتنا من الغفلة والاستلاب، ويعودوا لتوجيه مواقفهم نحو الحكمة والصواب، فيدركوا أن موالاة الأعداء من أشنع أنواع البلاء، وأن التطبيع، والتمييع، والتضييع، هو الضلال الشنيع؟
إن أمتنا تعيش على المحك، فإما عزة، و كرامة، وسيادة، وشهامة، وإما حسرة، وندامة، وخيانة، وقيامة.
لهذه العوامل كلها، بات من الواجب على أمتنا الإسلامية، وخاصة ونحن نعيش النفحات الرمضانية، أن نستغل هذه النفحات، لنعيد النظر في منظومتنا السياسية، والدينية، والتربوية، من أجل رسم مسيرة جديدة لأمتنا.
فالإسلام الذي فضلنا الله به على باقي الأمم، جعلنا خير أمة أخرجت للناس، فقد أمدَّنا بالقيم الإنسانية العليا التي مكَّنتنا من جذب العظماء، والحكماء، والعقلاء، لتبنِّي قضيتنا.
متى يفيق قادة أمتنا من الغفلة والاستلاب، ويعودوا لتوجيه مواقفهم نحو الحكمة والصواب، فيدركوا أن موالاة الأعداء من أشنع أنواع البلاء، وأن التطبيع، والتمييع، والتضييع، هو الضلال الشنيع؟
إن أمتنا تعيش على المحك، فإما عزة، و كرامة، وسيادة، وشهامة، وإما حسرة، وندامة، وخيانة، وقيامة.
ويكفي أن يلتفت الإنسان يمينا ويسارا، ليدرك ما يكيده الأعداء، وما يتربصون به في كل قطر عربي، من طنجة إلى مكة، فالكل يشحذ سلاحه، والكل يضمد جراحه، فمتى يستعيد وطننا العربي الإسلامي أفراحه؟
وعلى حد تعبير الشاعر العربي الراحل نزار قباني:
أنا يا صديقة متعبٌ بعروبتي
فهل العروبة لعنة وعقاب؟
أمشي على ورق الخريطة خائفا
فعلى الخريطة، كلنا أغراب
أتكلم الفصحى أمام عشيرتي
وأعيد لكن ما هناك جواب
لولا العباءات التي التفُّوا بها
ما كنت أحسب أنهم أعراب
يتقاتلون على بقايا تمرة
فخناجر مرفوعة وحراب
قبلاتهم عربية.. من ذا رأى
فيما رأى، قبلا لها أنياب
تلك، يا قارئي العزيز، بعض نتائج القراءة الراهنية المقاصدية لملاحم رمضان، فبدل أن نستلهم من هذه القراءة المزيد من الوعي، والتصميم على مضاعفة السعي، ها نحن نعاني النعي، لوحدتنا، وهيبتنا، وبقايا نهضتنا.
فهل يكون رمضان، بما يحمل من ذكريات، وما يضفي من نفحات، عامل توحيد شتات، ومصدر جمع للقوات، وإعادة قطار التضامن، والمساندة، واحتضان أشقائنا التائهين في غزة؟.
إنها ابتهالات، نرفعها إلى أعلى السموات، لعل الله يرفعنا بها بعض الدرجات، ويجعلنا نستعيد ما فات، فنعود إلى الذات، لنبني ما هدمه الأعداء، وأعانهم عليه بعض الطغاة الفاقدين لكل الصفات.