-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قصر بوسمغون.. عتق التاريخ وعبق التراث

محمد بوالروايح
  • 6951
  • 3
قصر بوسمغون.. عتق التاريخ وعبق التراث
ح.م
قصر بوسمغون

يقع قصر “بوسمغون” في إقليم ولاية البيض، وهي المدينة التي يؤكد علماء الآثار أنها من المدن الأثرية القديمة التي يعود وجودها إلى ما قبل التاريخ وذلك بناء على الحفريات والنقوش الحجرية التي اكتشفت بها، ومن ذلك ما اكتشفه الجيولوجي الفرنسي “فلاموند Flamand” سنة 1898م الذي ذكر في دراسة جيولوجية نشرتها أكاديمية البحث في الفنون الجميلة بباريس سنة 1899م أن “البيّض” كانت تشكل همزة وصل بين الحضارة المغاربية والحضارة الفرعونية.

إن الحديث عن “البيّض” أو “جيري فيل Geryville” حسب التسمية الاستعمارية – نسبة إلى العقيد جيري الذي دخل المدينة سنة 1843م- يقتضي حتما الوقوف عند النضال الثوري الذي أدّته هذه المنطقة والذي يظهر بصورة جلية في ثورة الشيخ “بوعمامة” التي تعدُّ واحدة من الثورات الشعبية الراسخة في الذاكرة الوطنية.

والحديث عن “البيّض” يقتضي أيضا الوقوف عند المعلم الأثري التراثي المتمثل في قصر “بوسمغون” الذي يعدُّ أحد أهم القصور التاريخية بمنطقة البيَّض التي تختزن في كنانتها جزءا مهمّا من تاريخ الجزائر الديني والثقافي الذي امتدَّ إشعاعه ليشمل المنطقة المغاربية وجزءا من المنطقة العربية بفضل الأعمال والآثار الجليلة التي تركها الذين تربُّوا وتعلموا في رحاب قصر بوسمغون في المناطق العربية التي انتقلوا إليها.

لا شك أن الحديث عن الجانب الأثري والمعماري لقصر بوسمغون مهمٌّ، ولكن الأهم منه في تقديري هو الحديث عن الجانب التراثي الديني والاجتماعي لهذا القصر الذي كان يمثل مؤسسة دينية واجتماعية كبيرة تضطلع بمهام الصلح والإصلاح الديني والاجتماعي في مرحلة عُرفت بطغيان ثقافة القبيلة التي عملت جهود القائمين على قصر بوسمغون وقصور البيَّض الأخرى على تهذيبها وتوجيهها وتخليصها من النعرات والنزعات والمظاهر السلبية للاجتماع القبلي، حسب تعبير علماء الاجتماع.

والحديث عن “قصر بوسمغون” يقتضي أيضا الحديث عن شخصية دينية واجتماعية كبيرة هو “سيدي بوسمغون” الذي يحمل القصر اسمه، و”سيدي بوسمغون” –حسب ما يذكره المؤرخون- من أصول مغربية وأفضل القول -تحريا للدقة- بأنه من أصول صحراوية لأنه ينحدر من الصحراء الكبرى وتحديدا من “الساقية الحمراء”، إذ يؤكد المؤرخون المتخصصون في الدراسات المغاربية القديمة بأنه خرج منها في رحلته الحجازية إلى المدينة المنورة ونزل في منطقة تدعى “وادي الأصنام” أو “وادي الصفاح” نسبة إلى الأحجار المصفحة الموجودة في الوادي، فنزل عند قبيلة “آت نقيت”، وكانت هذه المنطقة وما حولها معروفة بصراعاتها القبلية من أجل السيطرة على موارد الماء والكلأ، فهاله ما رأى وسمع فبادر بالصلح بين المتخاصمين ولم يكمل رحلته الحجازية وآثر البقاء بسبب إلحاح ساكنة المنطقة التي لمست فيه أخلاق الواعظ المُلهم والمصلح المحنك الذي حملت المنطقة فيما بعد اسمهأ وهي الحقيقة التاريخية التي يؤكدها “لوكارك” كما ورد في دراسة أثرية بعنوان: “قصر بوسمغون بولاية البيض: دراسة أثرية تحليلية” للباحثة “منى دحمون” لنيل درجة الماجستير في علم الآثار من معهد الآثار بجامعة الجزائر –قبل التقسيم -للسنة الجامعية 2004-2005.

 لا قيمة للجدل الذي يثار بشأن “سيدي بوسمغون” بكونه شخصية أمازيغية وليس شخصية عربية، أقول شخصية أمازيغية وليس شخصية بربرية كما ذهب إلى ذلك “كيفا Kiva” في كتابه: “الجزائر.. ذكريات”، لأن البربري معناه في اللسان اللاتيني “المتوحش” أو “البدائي” أو “الهمجي”، وهذه التسمية لا تليق بالرجل الأمازيغي الذي يعني “الإنسان الحرّ النبيل”. ومن جهة أخرى فإن الثابت تاريخيا أن القبائل الأمازيغية قد اعتنقت الإسلام، وشكل العنصر الأمازيغي والعربي في ظل الحكم الإسلامي عنصرا مسلما جزائريا أمه الجزائر وأبوه الإسلام، وهو الاتحاد الذي عبَّر عنه رائد النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس في مقالته الذهبية الرائعة: إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء وتؤلِّف بينهم في العسر واليسر وتوحِّدهم في السراء والضراء حتى كوَّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا أمه الجزائر وأبوه الإسلام. وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ساحات الشرف لإعلاء كلمة الله وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة العلم”.

لا يهمنا أن يكون “سيدي بوسمغون” عربيا أو أمازيغيا اعتنق الإسلام، ولكن يهمنا أنه شخصية جزائرية ،وهذه هي الثقافة التي ينبغي أن نتشبَّث بها ونلقنها للأجيال الصاعدة ونشهرها في وجه الطفيليين والطائفيين الذين يلعبون على وتر الطائفية المقيتة.

ما أحوجنا نحن الجزائريين إلى قيم الصلاح وثقافة الصلح التي ميزت شخصية “سيدي بوسمغون” والتي كانت الرسالة الإسلامية والإنسانية التي انطلقت من رحاب “قصر بوسمغون” في “البيَّض” فأنارت على المنطقة المغاربية برمتها ووصل نورها إلى المنطقة العربية وما وراءها.

ما أحوجنا نحن الجزائريين إلى شخصية إسلامية جزائرية وسطية على شاكلة “سيدي بوسمغون” تشيع قيم التسامح في المجتمع الجزائري وتلعن الداعين إلى التنافر والتدابر بالاستثمار في طروحات عرقية لا مكان لها في الجزائر التي لم تكن ولن تكون مكانا لأي دعوة طائفية تستخدم العرق كأساس للتمييز بين الجزائريين.

يحمل بعض أصدقائي ومعهم بعض الجزائريين لقب “بوسمغون” ولكن لا توجد أدلة دامغة على انتسابهم نسبيا إلى “سيدي بوسمغون”، ولعل ذلك يفسر بتيمُّن أجيالهم الأولى بهذه الشخصية التاريخية الفذة كما هو الشأن بالنسبة لمن يحملون ألقابا أخرى لشخصيات جزائرية شهيرة، فليس مهمّا أن يحمل هؤلاء لقب “بوسمغون” مادام أنهم وكل الجزائريين يحملون قيم “بوسمغون” وأخلاقه، فالألقاب لا قيمة لها إذا لم تشفع بسيرة رضية ومسيرة ثرية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • لحبيب

    كان ينقص في هدا المقال الجزء الدي يتكلم عن العلامة سيدي احمد التيجاني الدي للبث في القصر 17 سنة و هو يتعبد و يعلم اصول الدين .ففي القصر زاوية و مسجد شاهدين على دلك ...شكرا

  • م/ أولاد براهيم.

    يا استاذ لماذا تلف وتدور حول الموضوع. لماذا لا تدخل في الموضوع. وتقول على لسان قلمك.ها هم الامازيغ الاحرار. التقاة؛النقاة خدموا البلاد؛والعباد؛والموروث الديني للجهة خاصة..من من آبائنا لم يتتلذة على يد المجاهد والعلامة الشيخ راسمال رحمه الله.لا يذكر اسم سعيدةالا ومعها المجاهدوالوزير أحمد مدغري- والعلامة ؛والفتش الجهوي؛والمدير للشؤون الدينية راسمال. ولما تذكر قصر سمغون تذكر معه الشيخ الجليل الوقور الورع صاحب الهيئة والهندام العربي الاسلامي الحاج تبون لا أدري ما علاقة القرابة بيه وبين السيد الوزير الاول. في هذا القصر؛ وماحوله تتجلى الامازيغية معانقة العربية في تسامح؛ وتكامل هنا تتجلى الاخوة

  • باحث فى تاريخ الجنوب الغربي

    قصر بوسمغون ..يتبع .
    رابعا : أما بو سمغون الذي يحمل القصر إسمه فالمرجح أنه ينتسب إلى عائلة "سمغون" من قبيلة مكناسة الزناتية التي أسست أول إمارة للخوارج الصفرية فى بلاد المغرب منفصلة عن الخلافة العباسية عرفت "بإمارة بني مدرار"سنة 140------758م ، ولما كان بعض سكان منطقة البيًض وقتئذ على المذهب الخارجي الصفري فقد أقام بوسمغون لدى سكان قصر الصفاح بعد أن عدل عن مواصلة رحلة الحج لحل الخلافات والنزاعات السائدة ولنشر تعاليم الصفرية بينهم كونه فقيها وزعيما روحيا للمذهب فأدانوا له بالسمع والطاعة حتى وفاته و تخليدا وإكراما له سموا القصر بإسمه .