-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كأس العالم، وبؤس العوالم

كأس العالم، وبؤس العوالم
ح.م

وانطفأت أضواء الملاعب الروسية، إيذانا بنهاية كأس العالم، بعد أن ظلت مضيئة أسابيع عديدة.
خلت الـمدرجات -إذن- من روادها، بعد أن قدمت للعالم، صورا مختلفة، من كل ما شذ من البدع، وما هو غريب من الـمُتع، وأحدث ما أخرجته المصانع من المنتوجات والسلع.
ساد الصمت –الرهيب- مدرجات ملاعب موسكو، وقد شهدت هذه الـمدرجات، زئير الجموع، وإضاءة الشموع، وسكب الدموع، فابيضت وجوه واسودت وجوه من شدة الانتظار، وذلة الانكسار.
قدّم الغرب، بشقيه الشيوعي والرأسمالي صورا، لأبنائه، وهم يرقصون، جدلا من الفرح، ويتمايلون، نشوة من شدة شرب “الفودكا” وكل المسكرات، تعبيرا عن الطرب والمرح.
يحدث كل هذا، وعوالم أخرى، تعاني الجوع والظلم والفاقة، فلا تجد لها سبيلا إلى الحياة، من شدة الإعاقة، وانعدام الطاقة.
ففي مينمار، يعيش إخوة لنا في الدين، وفي الإنسانية، أبشع ألوان ظلم الإنسان لأخيه، فهم يعانون بسبب الظلم، والغربة والحقرة، كل ألوان المعاناة والحسرة. إنهم لا يجدون ما يأكلون، ولا حتى أوراق التوت الذي به يتسترون، في حين تغدق كل أنواع اللذائذ، على الفنادق، والحانات والمدرجات الروسية.
وفي الجانب الشرقي من العالم يعيش إخوة معذبون، من أبناء فلسطين في غزة والقدس ورام الله، بُحّت أصواتهم، من شدة الصراخ، ورُوعت أعشاشهم فهجرت منها الفراخ، ويزداد العدو الصهيوني صلفا وعنهجية، فلا راع له باسم القانون، ولا زاجر له باسم القوة، والسلاح المكنون.
إن بدعة كأس العالم التي تتجدد، أمام أعيننا كل خمس سنوات، تأتي لتذكرنا، بانقسام العالم إلى عالمين، عالم المجون والفتن وكل أنواع الجنون، وعالم الأسى والحزن والظلم، وما يعيشه المحرومون، المعذبون.
ويسألونك: ما هو نصيبنا نحن العرب والـمسلمون، من هذا “النعيم” الذي ينعم به الناس في كأس العالم، ونحن أغنى الناس “ثروة” وأكثرهم “سطوة”، وأشدهم “عنوة”؟
لقد ضربنا، في الـملعب، ضرب غريب الإبل، وخرجنا من الـمنافسات، نجر أذيال الخيبة والخجل، وما ذلك إلا لأننا مهزومون في ساحة الجد، وفي ميدان اللعب، ضعف في القول، وفساد في العمل.
ألا ليت كأس العالم، لا كان ! إنه يحرك السكين في جرحنا النازف، ويزيد مشاعرنا الواعية بأسا وبؤسا، لأننا فشلنا بإسلاس قيادة أمرنا إلى الفاشلين، فأذاقونا الويل من العذاب.
يحدث كل هذا، دون أن يسائل أي مسؤول عن المال السايب، وأين أغدق، وما هي النتيجة من إنفاقه؟ ولا يحاكم أحد، عن الطاقات التي بُددت، والإمكانات التي أهدرت، والأجيال التي –باسم الرياضة- خدرت؟
ليت –وهل ينفع شيئا ليتُ
ليت شبابا –”بيع” فاشتريت
إن مأساة أمتنا العربية الإسلامية، إنها وضعت من خارج تصنيف الأمم، أو في الدرك الأسفل من التصنيف. وتزداد مأساتنا عندما نلاحظ، أننا، لا نزال مصرين على الحنث العظيم ﴿… وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾(سورة الكهف الآية: 104).
فقد فشلنا في التصنيف التربوي الجامعي، فلم نجد لنا مكانا، حتى بين الجامعات الخاصة، ولا العامة. وما ذلك إلا لأننا أسندنا أمر تكوين الأجيال، إلى من لا يملك القدرة العقلية والعلمية، والوطنية، على حسن التكفل بالجيل، ولأننا نكرر التجارب الفاشلة، باسم الإصلاح الـمفسد، فنحول أبناءنا إلى فئران، نجرب فيهم أبشع أنواع التجارب دون جدوى، فيا ليت قومي يعلمون !
ومُني اقتصادنا بالكساد، ومالنا بالفساد، وتسييسنا بالعناد، ونحن الذين وضعَنا الله، في أحسن المواقع من البلاد، وميزنا بخير دين، دون باقي العباد، ولكن:
ونار لو نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رماد
حيرنا و-الله- أمر أمتنا، فهي أمة ولود، معطاءة، ذات ديمغرافية قافزة، ولكن ذلك كله غثاء كغثاء السيل.
ونلتفت، يمنة ويسرة، فنجد من حولنا، طنين مثقفين، وصُداع سياسيين، وثغاء باحثين، وصراخ نقابيين وحزبيين، وتشدد متدينين متعصبين، فما أغنى كل ذلك عن المصير الـمتردي، الذي نحن فيه.
فهل حكم علينا، أن نظل نراوح مكاننا؟ يتقدم الجميع، من مختلف الـملل، والثقافات، والطوائف، وقومي هم- هم..
كنا نظن –وبعض الظن ليس بإثم، أن الهزائم التي نتلقاها، والنكبات التي نحياها، والعقبات التي نغشاها، ستكون الموقظ لنا من السبات العميق، والذهال المحيق، ولكن صدق فينا قول الشاعر أبي الطيب المتنبي:
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
وبعد، قبح الله، كأس العالم، شأنه في ذلك شأن كل التظاهرات العالـمية، التي كلما حدثت، أغرقتنا من جديد في الـمزيد من اليأس، والتشاؤم.
والحقيقة أننا أمة، أساسها التفاؤل، بدء بميلاد الإنسان، وانتهاء بمصيره.
فلماذا انهزم التفاؤل أمام التشاؤم؟ وانتصرت الصغائر على العظائم؟
يشهد الله، أننا فشلنا على جميع المستويات، في عملية تشخيصنا للداء، ومنهجية بحثنا وإيجادنا للدواء.
هل لأن داءنا أعيى الأطباء دواؤه؟ أم لأننا لم نجد بعد الطبيب النطس، النابع من أصلابنا، والذي يستمد أداة تشخيصه، وهاجس علاجه من عمق معاناة أمتنا؟
فما لم يقيض الله لأمتنا العالِم العليم، والطبيب الحكيم، والحاكم القويم، الذي يستمد أنفاسه، وتأوهاته من حنايا تطلعات الأمة، ما لم يوجد مثل هذا بيننا، فسنظل نراوح مكاننا، ويكون حالنا، كحال من يكتب على سطح الماء، وشتان في ذلك أن يحدث كأس العالم، أو كابوس العوالم، فإن الناتج واحد، وهو الانهزام في ساحات العلم والعالم، وتلك أنكى أنواع الهزائم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • ahmed hamdoune

    داؤنا نعرفه و هو مشخص و لكن هناك و لكن هناك تجار يرتزقون من عقاقير عفا عنها الزمن و هم مجندون لمحاربة كل دواء جديد، إنهم جحافل الدعاة و المشايخ على اختلاف عمائمهم و منهم من تكرفت و تكستم و يبيع تلك العقاقير في علب منمقة جذابة. الأمم تجد و تكد في مخابرها و ورشاتها لاختراع الجديد النافع للبشرية ومشايخنا يتلقفون تلك الاختراعات ويبحثون في قرآننا عن إشارات وردت فيه عنها ليبرهنوا عن الإعجاز العلمي في القرآن و قد فند نجلكم المحترم نضال مزاعمهم فحبذا لو تخليت يا أستاذ عن الأسطوانة المشروخة التي يبثها السلفيون الدجالون و تساعد هذه الأمة المنكوسة على التخلص من هذا الجهل المتراكم منذ 14 قرنا.

  • البشير

    حين تكفون عن الصراخ والعويل وتتجهون الوجهة الصحيحة للتقدم ، حين تشخصون داءكم وتعملون على ايجاد العلاج الصحيح أي التحديث والعصرنة في كافة مجالالت الحياة ومنها المجال الفكري والمعرفي ، حينها تتقدومن وتنافسون الامم ، ما ذا فعلت اليابان، اوروبا، الصين،
    ، ألم يراجعوا مفاهيمهم وممارساتهم حتى تناسب العصر . يشهد الله انكم أنتم السلفيون المتحجرون من ساهم في ركود المجتمعات العربية الاسلامية. البارحة تتتهمون الدولة الوطنية بالعلمانية لانها طبقت نظاما تنمويا اشتراكيا، واليوم تحاربون التحديث بحجة الهوية ...وتثبتون الجهل والظلام . أخيرا يجب تحيين المعلومات : ليس هناك اليوم معسكر شيوعي ورااسمالي

  • جلال

    نعم لقد انهزمنا حين سيطر النقل على العقل والإستبداد على الشورى وقول السلف على الخلف والسنة على القرآن واصبح لنا وحيان وهجرنا القرآن وصار لنا مشايخ وكهنة ورهبانية في الإسلام (القول في الدين عندهم إثم كبير يعرض صاحبه للتكفير فإذا تجرأ أحد وخطر له رأي في أمر ما سواء أصاب أو اخطأ تصدى له حراس الشريعة بالويل والثبور وحرموه من الجنة وادخلوه في النار وكأنهم ظل الله في الأرض) وجمدوا وحنطوا الإسلام في الزمان والمكان واتوا بتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان وخلطوا السياسة بالدين والدين بالسياسة وطمسوا عالمية الرسالة المحمدية ومعنى الإستخلاف في الأرض

  • امين الوهراني

    سي قسوم جيد انكم تعترفون بهزائم و فشل الامة العربية الاسلامية وتوفق الغرب في كل المجالات. لكن عليكم ان تعترفوا بان الغرب خرج من الانحطاط و التخلف حينما قرر فصل الدين على الدولة فاتحا المجال للحرية كشرط اساسي لازدهار العقل . و بالتالي فان الغرب تمكن من احداث القطيعة مع قرون الوسطى مع عهد الدروشة ,صانعا دخولا مميزا في الحداثة.فعلينا ان نسلك نفس الطريق يعني القطيعة مع الاسلام السياسي و سيساته الهدامة مما يتطلب على مستوى الجزائر ابعاد المدرسة عن التاثير السيء و الهدام للفكر الدروشى.

  • الطيب

    على أقوام العالم الإسلامي أن يغيروا ما بأنفسهم أولاً حتى يغير الله ما بهم بعد ذلك ....و إن لم يغيروا فسيأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه .....البقاء للأصلح من الناس .

  • انا عربي وافتخر

    مقالة رائعة استاذنا الفاضل كثر الله من امثالكم واطال الله في عمرك كأس العالم يتجدد في كل اربع سنوات البطولة المقبلة في 2022 وستستضيفها قطر الشقيقة انشاء الله نعم يقال ان العرب البحارة المسلمين هم اول من اخترعوا البوصلة وهم اول من ضاعوا نسأل الله الثبات والله المستعان

  • كسيلة

    يكفينا أننا خير أمة أخرجت للناس لكننا أول أمة أخرجت من كأس العالم بإذن الله، لنعترف أننا كمجتمعات قد هزمنا،هزمتنا الأنظمة الإستبدادية، وهزمنا التخلف و الفقر و الفساد و الضياع ، ربما يبرر أحدنا بأن هذه كلها نتاج الأنظمة ، لكن حتى الأنظمة هي نتاج مجتمعاتنا أولا و أخيرا،فعلينا أن نعيش هزيمتنا ، وأن نعترف بها، و نتأقلم معها،ونحاول تجاوزها نفسيا على الأقل،فلنحاول بناء جيل جديد غير مشوه ،عساه يبني بعضا مما هدمناه ...

  • ا.د/غضبان مبروك

    شكرا جزيلا للدكتور قسوم على مقالته الملئة بلآهات والأحزان . نعم نحن أمة الهزائم والفشل والتحنيط كتحنيط فراعنة مصر وهذا منذ قرون أو على الأقل منذ ضياع الأندلس. تاريخنا كله فساد كفساد الأنظمة وتزوير كتزوير الانتخابات وتزوير العلامات فيالجامعات، وتاريخنا أسود كسود الغرابيب واصحاب الرايلات السود. لقد ظاعت البوصلة وماتت القيم وضغ الدين وانتشر الفساد والنفاق والبلطجة وحب الدنيا وتحول الدولار الى معبود العراب ومن على شاكلتهم. فمن الصعب تصور مخرج للوضع الذي نحن فيه وخاصة ونحن نكفر بالديمقراطية أو نؤمن بها ونفرغها من محتواها. فالشعوب والأمم الأخرى تطورت اما بالديمقراطية أو الوطنية ونحن نفتقد اليهما