كان رجلًا من زمن الصحابة!

لم تبالغ والدة الزوجة الأولى لقائد أركان كتائب القسام، محمد الضيف، حينما وصفته بأنَّه “كان رجلا من زمن الصحابة”؛ فكلّ ما نُقل عن دينه، وأخلاقه، وتواضعه، ولطفِ معاملته للناس، وحسن بلائه في الجهاد ضدّ العدوّ الصهيوني ودورِه العظيم في تطوير أداء المقاومة منذ انضمامه إليها في 1989 إلى أن ارتقى شهيدا في 13 جويلية 2024.. كلّ ذلك يؤكّد أنه فعلا رجلٌ من زمن الصحابة وإن عاش متأخِّرا عنه بنحو 14 قرنا كاملا، مثله مثل باقي قادة حماس وشهدائها الأبرار الذين خلّدهم التاريخ: أحمد ياسين، والرنتيسي، وصلاح شحادة، والعاروري، وإسماعيل هنيّة، ويحيى السنوار وغيرهم كثير…
كان الضيف متواضعا وزاهدا إلى درجة أنّه لم يترك لأهله بيتا، واكتشفت كاميرات الفضائيات العربية أنّ أرملته وأطفاله الثلاثة يعيشون في منزل متهالك، وهو الذي ساعد 270 عائلة على ترميم بيوتها، وقالت أرملته إنه كان صوّاما قوّاما حريصا على قراءة القرآن الكريم وتشجيع الشباب على حفظه، وكان سخيّا إلى درجة أنّه منح مبلغا من المال قدّمه له الشيخ أحمد ياسين بمناسبة زواجه، لأحد المقاومين، وغرفة نوم أهداها له صلاح شحادة، لمقاومٍ آخر، ليعينهما على الزواج بدورهما، مع أنّه كان بأمسّ الحاجة إلى المال والأثاث!
يُعرف عن الرجل أنّه من العقول المدبِّرة لـ”طوفان الأقصى”، وهذا رفقة السنوار ومروان عيسى وقادة آخرين من الصفّ الأول. وخلال التحضير للغزوة المبارَكة بأيام، قال لرفاقه إنّ المبادرة إلى ضرب الاحتلال من شأنها أن “تغيّر مجرى التاريخ”، وفعلا غيّرت هذه الضربة الهائلة مجرى التاريخ وألحقت هزيمة منكرة بالاحتلال لا يزال يتجرّع مرارتها وتبعاتها إلى اليوم. وبعد استشهاده في جويلية الماضي، واصلت المقاومة دربه، وحاربت الاحتلال بشجاعة منقطعة النظير، وألحقت به خسائر فادحة بلغت 5942 جندي قتيل وأزيد من 15 ألف جريح، والرقم كشف عنه قائد الأركان الجديد لجيش الاحتلال، اللواء أيال زامير، ما أجبر الكيان في النهاية على وقف الحرب وعقد صفقة تبادل أسرى بشروط المقاومة.
ما قاله الضيف عن “تغيير مجرى التاريخ” يذكّرنا بأب الثورة الجزائرية مصطفى بن بولعيد الذي وقف قبل ساعات من تفجير ثورة أول نوفمبر 1954 مخاطبا نحو 400 مجاهد قبل توجّههم إلى مختلف مواقع العدوّ لضربها إيذانا ببداية الثورة؛ إذ قال آنذاك إنّ “الثورة ستجعل التاريخ يلِد”، وفجّرها بن بولعيد فعلا، ولم يصدّق كثيرون أنّ “كمشة” من المجاهدين قادرون على “توليد التاريخ” ودحر الاستعمار الفرنسي، وعدُّوها “مغامرة خطيرة” ستعود بالوبال على الشعب الجزائري برمّته، وتزايد هذا الشعور بعد تصاعد القمع الوحشي الفرنسي بمرور سنوات الثورة.. وقد استُشهد بن بولعيد في 22 مارس 1956، لكنّ قادة آخرين خلفوه وواصلوا المسيرة إلى أن اكتملت “ولادة التاريخ” الجديد للجزائر بتحريرها بعد قرن وثلث قرن من الاحتلال الفرنسي الاستيطاني، اعتقد خلاله الكثيرون أنّ الجزائر قد ضاعت نهائيًّا، وليس هناك أيّ أمل في تحريرها من رابع قوّةٍ عسكرية في العالم.
التاريخُ لا يصنعه المهرولون والمنبطحون والخونة وخائرو الهمّة الذين تخيفهم القوة الغاشمة للأعداء، وسرعان ما يستسلمون ويطلبون سلاما ذليلا حقيرا بلا سيادة ولا أنفة ولا حتى كرامة.. التاريخ يصنعه فقط المؤمنون بشعوبهم وقُدراتها الكبيرة على إحداث التغيير متى أحسنوا قيادتها إلى النَّصر، والضيف واحدٌ منهم، وقبله كان الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وهنيّة وغيرهم كثيرون يؤمنون بضرورة التحرّك لإنقاذ فلسطين والقدس والأقصى من التهويد والضّياع، فأسّسوا حماس ورفعوا راية المقاومة، وفجّروا الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987 والثانية في سبتمبر 2000 وحرّروا غزة من جيش شارون ومستوطنيه في أوت 2005، وواصلوا مقاومة الاحتلال وتحدّوا الحصار المتواصل، إلى أن جاءت غزوة 7 أكتوبر 2023 المباركة، وكلّما استُشهد منهم قائدٌ فذّ خلفَه آخر أشدُّ منه بأسا وعزيمة وثباتا على الحقّ.. لذلك نؤمن أنّ خلفاء الضيف في كتائب “القسام” سيواصلون دربه إلى غاية تحقيق حلمه في تحرير فلسطين كاملة من النَّهر إلى البحر، وعودة اللاجئين جميعا إلى بيوتهم في الداخل الفلسطيني، وستُرمى كل مشاريع التهجير وتصفية القضية في مزبلة التاريخ.
لقد كان أول نوفمبر 1954 بداية لحظة “ولادة التاريخ” في الجزائر؛ تاريخ التحرير والاستقلال بعد ليل استعماري طويل، وستكون غزوة 7 أكتوبر المجيدة بداية لحظة “تغيير مجرى التاريخ” في فلسطين نحو الحرية والانعتاق بإذن الله. التحريرُ قادمٌ لا محالة مهما طال الوقت وعظُمت التضحيات، لكنّ غزّة الآن تحتاج إلى تضميد جراحها وإعادة بناء ما هدّمه الاحتلال الفاشي، ومرّة أخرى ندعو ملايين الجزائريين إلى أن يهبُّوا لمساعدة إخوانهم في غزة بكلّ ما يستطيعون، لتخفيف معاناتهم وتثبيتهم في أرضهم، ولن يُعذَر أحدٌ على تخاذله وعدم اكتراثه.