كذبٌ بواح!
عندما يستهدف الاحتلال عددا من المدارس التي تغصّ بمئات اللاجئين بغزة ويرتكب مجازر مهولة بحقّ عشرات المدنيين كلّ مرة، ثم يبرّر جرائمه المستمرّة بأنّ هذه المدارس كانت مقارّا عسكرية لكتائب القسام، فإنّ هذا التطوّر الخطير يعني أنّ الاحتلال قد وجد ذريعة لإفناء عشرات الآلاف، وحتى مئات الآلاف، من سكان غزّة، إذا لم يخرج المجتمع الدولي عن صمته ويتدخّل بفعالية لإجباره على وقف مذابحه.
بهذه الذّريعة الواهية، يمكن للاحتلال قصفُ كلّ المدارس ومراكز اللجوء بغزة وارتكاب المجزرة تلو الأخرى، وحينما تحتجّ أيّ دولة في العالم، يردّ بأنّه استهدف قادة وناشطين قساميين أو مقارّا لهم، ويتذرّع بأنه فعل ذلك بناءً على “معلومات استخباراتية دقيقة”، ثم ينشر قوائم وهمية لناشطين قتلهم من قبل في أماكن أخرى أو في مواجهات ميدانية أو هم مجرّد دعاة وأساتذة جامعيين لا علاقة لهم بالنشاط العسكري لحماس كما حدث في مجزرة مدرسة “التابعين” يوم السبت، وبذلك يضرب عدة عصافير بحجر واحد، فهو يُسكت الأفواه الدولية المنتقِدة، ويحمّل المقاومة مسؤولية ما حدث للمدنيين، كما يدقّ أيضا إسفينا بين المدنيين والمقاومة.
المنطق يقول إنّ المقاومين ليسوا سذّجا حتى يندسّوا في أوساط المدنيين أو يقيموا مقارّا لهم داخل المدارس والمستشفيات ويتسبّبوا في ارتكاب مجازر بحقّهم، هذا لا يخدم المقاومة التي تعرف جيّدا أنّ لها حاضنة شعبية قويّة ومتماسكة في غزة ويجب أن لا تفرّط فيها أو تستعديها تحت أيّ ظرف من الظروف، يكفي أنّ هذه الحاضنة لا تزال وفيّة للمقاومة وتدعمها بشتى الوسائل وتتشبّث أيضا بالبقاء في غزة وعدم الرضوخ لضغوط الاحتلال بتهجيرها إلى سيناء المصرية برغم كلّ ما تلاقيه من أهوال، ومن ثمّ فإنّ المقاومة حريصة على العلاقات الجيّدة مع حاضنتها الشعبية والدفاع عنها بكلّ السبل، فكيف تدسّ عناصرها وسط المدنيين وتعرّضهم للخطر، وهي تعلم أنّ العدوّ يبحث عن أيّ ذرائع لمواصلة مجازره اليومية ضدّهم لإشعارهم بأنّه لا مكانَ آمنًا لهم في غزة والأفضل لهم تركها للمستوطنين والهجرة إلى مصر؟
والمؤسف أن لا تحرّك هذه المجازر المرتكَبة عمدا في مدارس النزوح، دول الغرب لإدانتها، وقد سمعنا من قادة الولايات المتحدة وفرنسا وجوزيب بوريل مفوّض الاتحاد الأوروبي ومسؤولين غربيين آخرين، إدانات خجولة وحتى عتابا رقيقا للاحتلال، وكأنّهم يريدون القول لنتنياهو: “لقد أحرجتنا يا رجل.. كان ينبغي أن يكون عدد القتلى المدنيين أقلّ”!
لكنّ الأسوأ من الإدانات الخجولة، أن نجد من يتبنّى رواية الاحتلال ويصدّق كذبه البواح بشأن وجود مقاتلي حماس بين المدنيين في مدارس النزوح أو اتخاذها مقارّا لهم، وقد سمعنا هذا الادّعاء من وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، للأسف الشديد، وهو في الواقع انحيازٌ سافر للاحتلال ومواصلة تصديق سردياته المزيّفة منذ 10 أشهر كاملة.
في البداية صدّقوا رواية اغتصاب النساء في المستوطنات، وقطع رؤوس الأطفال وحرق جثامينهم، وهي الرواية التي تبيّن كذبُها لاحقا، وصدّقوا أنّ المقاومة شقّت أنفاقا تحت المستشفيات أو اتّخذت من أقسامها العلاجية مراكز عسكرية، ثم صدّقوا أنّ صاروخا للجهاد الإسلامي هو الذي انحرف عن مساره وقتل نحو 470 فلسطيني في مسجد المعمداني، مع أنّ آلاف صواريخ المقاومة لم تقتل سوى بضعة مستوطنين فقط، فكيف يقتل صاروخ ذو قدرة تدميرية محدودة 470 فلسطيني دفعة واحدة؟!
واليوم تصدّق بريطانيا رواية الاحتلال بأن عناصر المقاومة يندسّون بين المدنيين أو يقيمون مقارّا لهم في مدارس النزوح.. كان يمكن أن تكون هذه الرواية منطقية لو لم يكن للمقاومة سوى بيوت فوق الأرض تحتمي بها، أما وأنّها قد شقّت شبكة أنفاق ضخمة ومتشعِّبة وحصينة بطول 570 كيلومتر، وتقود منها معاركها اليومية الطاحنة ضدّ جنود الاحتلال، فلماذا تحتاج إلى إقامة مقارّ لعناصرها في المدارس والمنشآت التي تغصّ بالمدنيين أو أن تدسَّ عناصرها بينهم؟! هذا لا يصدّقه منطقٌ أو عقل.
الواضح أنّ الاحتلال يسوق هذه الذرائع الواهية الكاذبة لتبرير مجازره المهولة التي يريد بها تهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو إجبار حماس على الاستسلام، والمؤسف أن يجد دولا غربية تصدّقه وتردّد ذرائعه.. لقد كشفت حرب غزة وجها في غاية البشاعة لهذا الغرب المنافق الذي يرى القانون الدولي الإنساني الذي وضعه بيديه يُخرَق ويداس يوميّا من طرف احتلال نازي حاقد متوحّش فاق هتلر في جرائمه، ولكنّه لا يتحرّك ولا يدين، بل يبرّر ويلتمس له الأعذار! أيّ عالم متوحّش هذا الذي نعيش فيه؛ عالم فقد إنسانيته وأخلاقه وقيمه وقوانينه وأصبح عنصريا فاشيا ينكص تدريجيّا ويعود إلى حياة الغاب وحكم القوي يأكل الضعيف!