كركاس عاصمة لمناهضة التطبيع والفاشية

بين الجزائر وفنزويلا أزيد من 7500 كم، تقطعها في 24 ساعة، متنقلا بين مطارين في قارتين متباعدتين، بفارق توقيت بين العاصمتين الجزائر وكراكاس 5 ساعات كاملة. في هذه الرحلة تنقلت من أجواء باردة وثلوج، في فصل الشتاء، إلى جغرافية ثانية يعيش أهلها أجواء الصيف بدرجة حرارة تصل 28 درجة.
في هذه الأرض، بشمال أمريكا اللاتينية، اختلاف في اللغة والدين، في العرق وملامح البشر، لكن مع ذلك، هنالك ارتباط وتوافق بين الجزائر وفنزويلا، في دعم القضايا العادلة وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وفي مناهضة الصهيونية..
أطول رحلة..
الرحلة من الجزائر إلى العاصمة كراكاس تتطلب قطع المحيط الأطلسي، وتدوم 8 ساعات ونصفا، لكن ولعدم استكمال الناقل الجوي الحكومي في فنزويلا “كونفياسا” لربط مطار “سيمون بوليفار” بمطار “هواري بومدين” لحد لساعة، يتطلب الأمر التوجه شرقا إلى إسطنبول في رحلة مع الخطوط الجوية التركية، في رحلة تدوم 3 ساعات ونصفا، زيادة على فترة انتظار أخرى في المطار، هي أشبه ما يكون بمدينة تدب فيها الحركة دون توقف، فتتحول إلى حلقة وصل بين تركيا والقارات الخمس، بما في ذلك المدن البعيدة كعاصمة التشيلي سانتياغو وملبورن الأسترالية.
فترة الانتظار في المطار فرصة لمتابعة جدول الرحلات المزدحم جدا، خاصة الرحلات البعيدة إلى أمريكا، مثلا، وغاب عني أن رحلتي إلى كراكاس كانت الأطول، بل هي واحدة من أطول الرحلات في العالم، كيف لا ومدتها 17 ساعة و50 دقيقة كاملة، يقطعها الراكب في كرسي على علو 10 آلاف متر، جدول الرحلات يشير إلى رقم الرحلة، ومعها الرحلة المتجهة إلى العاصمة الكوبية هافانا، التي لم أكن على علم بها، وعرفت لاحقا السبب..
اتخذت الطائرة في الرحلة مسارا مغايرا، فعوض الوصول إلى السواحل الإسبانية، ثم قطع المحيط الأطلسي إلى كراكاس شمالي أمريكا اللاتينية، انعطفت الطائرة شمالي أوروبا نحو النمسا ثم ألمانيا فهولندا، ومنها إلى المملكة المتحدة، لتشق طريقها نحو الشمال، أكثر فأكثر. كنت أتابع المسار في الشاشة المثبتة على ظهر الكرسي، إلى أن ظهرت كتلة جليدية عملاقة هي “غرينلاند”، كان ذلك مؤشرا على أن الطائرة تتجه الى وجهتها، ولكن من أمريكا الشمالية، فتساءلت: لم؟
طول مدة الرحلة و”الملل” يدفعك للحديث مع من يجاورك في السفر. سيدة سمعتها تتحدث باللغة الفرنسية، أبلغتني أنها طبيبة أطفال كوبية تشتغل في المستشفى الكوبي بالجلفة، وهي عائدة لزيارة عائلتها. ما الذي تفعله في الطائرة المتوجهة إلى فنزويلا، تساءلت، فكانت المفاجأة أن الرحلة ستحط رحالها في العاصمة هافانا..
الطائرة ماضية في مسارها المرسوم، وهاهي فوق التراب الكندي، ثم تصل أمريكا، الدولة الخصم للدولة التي تستضيفني طيلة أسبوع، أشهد فيها تولي نيكولا مادورو، رئاسة البلاد لعهدة ثالثة، وحضور ندوة دولية ضد الفاشية ومناهضة الصهيونية، وكلها مواعيد لا تروق بلاد “العم سام”..
ومن الشمال تتجه الطائرة إلى الجنوب، قاطعة التراب الأمريكي، ومن ذلك ولايات شارلوت وأتلانتا وجاكسون-فيل ثم أورلاندو ففلوريدا ثم ميامي، حينها لم يبق الكثير للوصول إلى كوبا “المغضوب” عليها من أمريكا طيلة عقود من الزمن، بسبب اختلاف السياسات بين واشنطن وهافانا. بعد مرور 15 ساعة كاملة في السماء، حان وقت النزول إلى الأرض، والمحطة العاصمة الكوبية “هافانا”، وقبل أن تحط الطائرة، طلب أن نبقى في المقاعد، إذ إن مدة التوقف لا تزيد عن الساعة، تتيح نزول ركاب وصعود آخرين، واستبدال طاقم الطائرة الذي خدم المسافرين، زيادة على عملية تنظيف للطائرة..
كانت الدقائق الستون، كافية للسير بين أروقة الطائرة “لأستعيد” بعض حريتي، التي حرمني منها المقعد، واغتنام الفرصة للنظر إلى ما تيسر من طبيعة هذا البلد. كانت بمدرج المطار طائرات قليلة، باستثناء طائرة تابعة لشركة “أمريكان إيرلاينز”.. كوبا وجهة محببة للسائح الأمريكي.
لم تكن مدة الرحلة متابعة للمسار فقط، وإن غلبني النعاس قليلا، لكن متابعة بعض ما أنتجته هوليوود قد يقضي على بعض الملل، فكانت الفرصة لإعادة مشاهدة التحفة الخالدة للمخرج المبدع فرانسيس فورد كوبولا “العراب 1″ و”العراب 2”..
ولأن الوجهة منطقة “ثورية” متطلعة إلى “عالم حر”، آثرت أن أشاهد شيئا مما يتعلق بهذه الأفكار وهذه المنطقة، فوقع الاختيار على فيلم “بوب مارلي: حب واحد”، الذي يقدم قصة نجم أغنية الريغي، والرجل الذي يعد أشهر حتى من بلاده جامايكا، تطلب الأمر أن أتابع فيلما آخر هو “Judas and the Black Messiah “، وترجمته بالعربية “يهوذا والمسيح الأسود” إنتاج 2021، يتحدث الفيلم عن تجنيد ضابط من الشرطة الفدرالية FBI، لأحد عناصر تنظيم حركة الفهود التي أسسها السود بعد مقتل مالكم إيكس، للتجسس على القيادة.
انتقائية الإعلام الغربي..
طول الرحلة، دفعني إلى تنشيط ما فاتني من أخبار، فكان لزاما علي أن أطلع على بعض ما يجري، خاصة في غزة، فشغلت خدمة القنوات المباشرة المتاحة في الطائرة، والخدمة تضمن متابعة قنوات إخبارية عالمية مثل “سي أن أن” و”سي أن بي سي” الأمريكيتين، و”بي بي سي” البريطانية، و”تي أر تي وورلد” التركية.
كان الحدث الوحيد للقنوات الأمريكية والبريطانية الحرائق المهولة التي التهمت مناطق واسعة من لوس أنجلس، ولا إشارة واحدة إلى حرب الإبادة الصهيونية في غزة، عكس القناة التركية التي كان حيزها الزمني الأكبر في البث عن غزة.
بعد انقضاء ساعة التوقف، صعد الطاقم الجديد للطائرة، وبعد أقل من 3 ساعات، بدأت الأراضي “البوليفارية” في الظهور. نزلنا في مطار “سيمون بوليفار” الدولي في العاصمة كراكاس، بعد 17 ساعة و50 دقيقة كاملة.. حينها تنفسنا الصعداء..
عند الخروج من الطائرة، كانت الجهة المنظمة في استقبالنا مباشرة، وحينها عرفت أن عددا كبيرا ممن رافقوني في الرحلة من جنسيات عربية وإفريقية وآسياوية وأوروبية، مدعوون كذلك إلى نفس الغرض الذي قدمت من أجله.
قبل مروري على شرطة الحدود لاستكمال إجراءات الدخول، استوقفتني صورة شخص مطلوب للعدالة المحلية مقابل 100 ألف دولار –مبلغ كبير جدا في هذا البلد- يتعلق الأمر بالمسمى إدموندو غونزاليس أوروتيا، ويحدد النداء الموجه للجمهور للمساعدة على توقيفه الاتهامات الموجهة إليه وتشمل اغتصاب سلطة، ونشر معلومات كاذبة، والتحريض على عصيان القوانين، والتحريض على التمرد، والتآمر الإجرامي.
أنهينا الإجراءات بدائرة الهجرة بعد “طول انتظار”، وقبيل مغادرة المطار الذي كانت فيه الحركة قليلة نوعا ما، استقبلنا رجل في الستينيات من العمر، ضعيف البنية، بشوش، تتدلى على صدره كوفية فلسطينية، وطيلة إقامتي في فنزويلا لم أكن أراه إلا والكوفية في رقبته، إنه إسحاق خوري أبو الوليد، ممثل الجبهة الشعبية في فنزويلا، هذا الرجل واحد من ضحايا النكبة، الذين هجرتهم العصابات الصهيونية عام 1948 من فلسطين التاريخية، لكنهم لم ينسوا تاريخهم ولا حلم العودة إلى الأرض والديار.
أول ما لفت انتباهي عند الخروج من المطار، وأنا أنظر يمينا وشمالا لأشفي فضولي حول كراكاس، شباب يقدم لآخر رزما من “البوليفار” –العملة المحلية- المشهد أعاد إلى تفكيري الحديث عن انهيار اقتصاد البلد وأن عليك ملء حقيبة من المال لتتناول وجبة فطور، ولكن..
بين المطار ومقر الإقامة في فندق “ميليا” وسط العاصمة، حوالي ساعة من الزمن، كانت الحافلة تشق طريقا صعودا من ساحل الأطلسي، وسط الجبال، وكانت تتراءى لي عشرات المنازل في الجبال، المعروفة بـ “فافيلا”، تم دهن الجدران بألوان متعددة حتى تقدم منظرا جميلا، وتؤكد السلطات أن هذه الأحياء تتوفر على كل ما يحتاجه السكان، خاصة الأمن وبمداخلها عناصر الشرطة.
طيلة مدة الطريق من المطار عبر الطريق السريع وحتى دخول العاصمة، كانت الحركة قليلة جدا، مع انتشار مكثف لمختلف الوحدات الأمنية، فيما تجرى عمليات تنظيف واسعة، تحسبا لوصول “ضيوف الدولة”، ممن سيشهدون أداء اليمين الدستورية للرئيس المنتخب، نيكولا مادورو.
كاراكاس تتأهب..
تتشابه أحداث الانتخابات الرئاسية في فنزويلا – جرت في جويلية 2024 والرئيس استلم مهامه رسميا في جانفي 2025- وفاز بها الرئيس نيكولا مادورو، بنسبة 52%، على حساب مرشح العارضة الدبلوماسي إدموندو غونزاليس بنسبة 44 بالمئة.. مع ما حصل في انتخابات سنة 2018، عندما ترشح مادورو لعهدة ثانية، وفاز فيها على حساب رئيس الجمعية الوطنية حينها خوان خيراردو غوايدو، الذي اعتُبر من طرف سلطات بلاده مجرد “واجهة وعميل لقوى غربية إمبريالية تعمل على الإطاحة بنظام الحكم الشرعي”.
وكان غوايدو أعلن في 23 جانفي 2019 أنه سيتولى بشكل رسمي دور الرئيس المؤقت، تلقى غوايدو اعترافًا رسميًا بالشرعية من قبل نحو 60 حكومة في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والعديد من البلدان الأوروبية والأمريكية اللاتينية. وواصلت دول أخرى، منها روسيا والصين وجنوب أفريقيا وإيران وسوريا وكوبا، اعترافها بمادورو.
لكن، في 6 جانفي 2021، أوقف الاتحاد الأوروبي اعترافه بغوايدو كرئيس، دون الاعتراف بمادورو كرئيس شرعي، مهددًا بمزيد من العقوبات، وبحلول شهر ديسمبر 2021 لم يكن غوايدو قد تمكن من الإطاحة بمادورو من السلطة، وبقي مادورو يسيطر على الجيش ومؤسسات الحكومة ومشاريع الدولة.
في الرئاسيات الحالية، أرادت عضو الجمعية، ماريا كورينا ماتشادو، خوض غمار السباق لتولي منصب رئيس البلاد، لكن المحكمة العليا رفضت ترشحها، وقالت إن ماتشادو ستبقى “غير مؤهلة لضلوعها في مؤامرة الفساد التي دبرها خوان غوايدو”، الرئيس السابق للبرلمان، وقالت المحكمة في قرارها بحق ماتشادو إن “مؤامرة غوايدو أدت إلى حصار على جمهورية فنزويلا البوليفارية، إضافة إلى مصادرة وقحة لشركات وثروات الشعب الفنزويلي في الخارج، بالتواطؤ مع حكومات فاسدة”.
فهل انتهت ما تسميه كراكاس مغامرة ماتشادو؟ تقول السلطات الفنزويلية إن ماتشادو تمثل وجها للإمبريالية الأمريكية، تسعى من خلاله لوقف السياسات الحالية للبلاد المعتمدة على الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، التي بدأها الرئيس الراحل هوغو شافيز، نهاية التسعينيات، قد أرادت الوصول إلى الحكم بتقديم إدموندو غونزاليس، حيث يتطابق هذا الأخير مع ماتشادو في معارضة النهج الحالي للحكومة، فهو يعارض مبادرات التكامل الإقليمي، مثل “ميركوسور” (السوق المشتركة لبلدان أمريكا الجنوبية)، و”يوناسور” (اتحاد دول أميركا الجنوبية)، لأنه يرى أن هذه المنظمات كانت مرتبطة أو متأثرة بأجندات سياسية تهدف إلى تعزيز نفوذ نظام شافيز، ولا تخدم بلاده.
ومع صدور النتائج التي أعلنها رئيس هيئة الانتخابات أواخر جويلية 2024 بفوز مادورو بولاية رئاسية ثالثة، بحصوله على 51%، مقابل 44% لخصمه غونزاليس، عادت ماتشادو للظهور مدافعة عن حليفها غونزاليس، مدعية أن غونزاليس حصل على 70% من أصوات 40% من المحاضر التي بحوزة مراقبي المعارضة، ومن ثم اعتبرت أن فوز الرئيس مادورو غير صحيح.
لاحقا، أعلنت النيابة العامة الفنزويلية أنها فتحت تحقيقا جنائيا بحق غونزاليس أوروتيا، وزعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو بتهم عدة، منها “اغتصاب سلطة ونشر معلومات كاذبة والتحريض على عصيان القوانين والتحريض على التمرد والتآمر الإجرامي”.
محاكمة الصهيونية في “لا كارلوتا”
هذه الأجواء المكهربة التي تزامنت مع عطلة نهاية السنة، جعلت شوارع العاصمة كراكاس وطرقاتها فارغة، لكن ذلك الفراغ لم يكن موجودا في القاعدة العسكرية الجوية “لا كارلوتا”، حيث احتضنت خيمة ضخمة الندوة الدولية ضد الفاشية والصهيونية، بمشاركة أزيد من 1200 مدعو من 121 دولة.
عند مدخل القاعة تستقبلك فرقة موسيقية محلية، لا يمكن دخولها، قبل الاستماع والاستماع للموسيقي اللاتينية، كان بعض الحضور يشارك الفرقة الغناء والرقص، أخذت صورا للذكرى ثم ولجت القاعة، تقابلك بوستيرات عملاقة لشخصيات خالدة في التاريخ الأمريكي اللاتيني، أولها سيمون بوليفار والناشط العمالي الذي كان أول رئيس وزراء لسانت كيتس، ونيفيس روبرت لويلين برادشو، والقيادي في حروب استقلال فنزويلا جان بابتيست بيدو، إضافة إلى فرانسيسكو مورازان –الهندوراس- الذي كان أول رئيس لجمهورية أمريكا الوسطى الفدرالية، والثائر البوليفي توباك كاتاري، والثوري من نيكاراغوا ضد الاحتلال الأمريكي أوغوستو سيزار ساندينو، إضافة إلى الشخصية الكبيرة من كوبا فيدال كاسترو، ورمز التشافية هيغو تشافيز.
في الوقت الذي كانت دولة الاحتلال والصهيونية تحاكم داخل “لا كارلوتا”، ويصدح المشاركون بالحرية لفلسطين، كانت لا تزال دول عربية، وفي عز حرب الإبادة ترفع “علم” دولة الاحتلال في عواصمها وتقيم علاقات دبلوماسية معها..
على خطى شافيز..
من فلسطين الأرض، إلى فنزويلا بلد الإقامة، منذ عام 1990، تتلخص حكاية إسحاق خوري “أبو وليد”، الذي هاجرت عائلته إلى فنزويلا ثم التحق بها، يقول عن هذه الوجهة البعيدة التي اختارها للإقامة إنها “مسألة صدفة، كان والداي مقيمين في فنزويلا، وجئت لزيارتهما ومكثت، لكن نضالنا الأساسي ورغبتنا ليس أن تكون في دولة عربية أو أجنبية، بل العودة إلى أرضنا في فلسطين، وعودة جميع أبناء شعبنا، وهذا لن يتم إلا بتحرير فلسطين وطرد الحركة الصهيونية التي تسيطر على فلسطين”.
أبو وليد، ليس مجرد فلسطيني ممن هجّرته العصابات الصهيونية بعد النكبة، بل فلسطيني مهيكل في تنظيم سياسي عريق، هو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي أسسها الحكيم جورج حبش، أمينها العام الحالي، أحمد سعدات، في الأسر وسلفه أبوعلي مصطفى، استشهد في عملية غادرة للصهاينة. وفق هذا الانتماء، يصبح أبو وليد “إرهابيا” في الغرب، لأنه معادٍ للصهيونية. في فنزويلا، يتولى تمثيل هذا الفصيل السياسي الثوري الفلسطيني في بلد يعيش الروح الثورية، وعنها يقول محدثنا: “الروح الثورية في فنزويلا جديدة، نمت وتطورت بعدما تأسست على يد القائد هيغو شافيز”، ويتابع: “الكثير من دول أمريكا اللاتينية عانت من دكتاتوريات كثيرة، ومرت البلاد بحرب أهلية، بين قوى التحرر والقوى المقربة من الإمبريالية، وكانت الغلبة للقوى التابعة للإمبريالية، التي حكمت البلاد منذ الحرب العالمية الثانية وحتى مجيء القائد العظيم شافيز، الذي قام في عام 1991 بمحاولة انقلاب وتمرد عسكري على النظام اليميني، الذي كان قائما في تلك الفترة، برئاسة كارلوس اندريس بيريس، وعندما فشل التمرد العسكري أوقف وسُجن، وبعد خروجه من السجن استمر في العمل السياسي، متخذا شعار “إذا لم ننجح في العمل السياسي، يجب أن نكون جاهزين للعمل العسكري للإطاحة بالنظام اليميني التابع للإمبريالية الأمريكية والصهيونية”.
يقول أبو وليد إن الحاضنة الشعبية لفلسطين في فنزويلا، تأثرت بالمبادئ الثورية التي كان يطرحها القائد الراحل شافيز، ويقول: “القائد كان يرفع شعار تأييد القضية الفلسطينية شعارا سهلا، ويمكن لأي شخص أن يؤيدها لأنها قضية عادلة، لكن تأييد القضية الفلسطينية لا يكفي، إذا لم يقترن التأييد بالعداء للصهيونية، فما دون ذلك يكون التأييد ناقصا… ومن هنا، شرح هذه القضية لشعبه، وأعلن أنه كرئيس للبلاد، سيبقى معاديا للصهيونية، مناهضا لها، لأن الحركة الصهيونية ليست عدوة للشعب الفلسطيني فقط، بل عدوة لشعبنا في فنزويلا وفي القارة ولكل الشعوب في العالم”.
أستفسر من أبو وليد عن قدرة الرئيس مادورو على الاستمرار في العداء للصهيونية والضريبة التي سيدفعها مقابل هذا الخيار، فيجيب: “مادورو مناضل فنزويلي، تسلم العديد من المهام في عهد الرفيق الراحل شافيز من وزير خارجية ونائب رئيس، وهذه المهام أكسبته الخبرة، وهو أصلا من القطاع العمالي والفكر اليساري المناضل، وعلى هذا الأساس استمرار النظام المناهض للإمبريالية والصهيونية يعتمد على عدة عوامل، منها أن هذا النظام ملتزم بمبادئ الحرية والعدالة ومكافحة الفساد، لأن الفساد أكبر خطر يهدد هذه الأنظمة وإنجازاتها”.
توصيات ندوة استثنائية..
في الندوة، مجموعة من الشباب والشابات يرتدون الكوفية الفلسطينية، تبادلت معهم أطراف الحديث، عرفت أنهم طلبة فلسطينيون استفادوا من منح لدراسة الطب في كوبا، منهم الشابة أميمة الخواجة، التي ستنهي دراستها كطبيبة عيون، دراسة الطب لم تبعدها عن السياسة وعن قضيتها الفلسطينية، تقول الشابة: “القضية الفلسطينية محط اهتمام العالم الآن، لكنها ليست القضية الوحيدة العادلة في العالم، نحن تعلمنا أن نتضامن مع كل القضايا العادلة، كما يتضامن الآخر مع قضيتنا، هذا ما تعلمناه في أمريكا اللاتينية كما في كوبا وفنزويلا، هذه الدول متضامنة معنا بشكل غير محدود، هنا المواطن مقاوم، وتقريبا قضيتنا واحدة، هنالك تقارب الأفكار، خاصة فكرة أن العدو واحد والقضية واحدة رغم بعد المسافات”.
بعد اجتماعات ماراطونية استمرت ثلاثة أيام كاملة، خرجت الندوة الدولية لمناهضة الفاشية والصهيونية، بجملة من التوصيات، منها إنشاء استراتيجيات قانونية لمواجهة الفاشية عبر منتدى حقوقي وقانوني، وإطلاق مخيم تدريبي لتأطير قادة شبان، كذلك إطلاق الأممية النسوية المناهضة للفاشية في الثامن سبتمبر الداخل، وربط النضالات الدولية ضد الفاشية، مع إنشاء مركز دولي للفكر الدولي المناهض للفاشية.
وقبل مغادرة الحضور الذين غصت بهم قاعة “لا كارلوتا”، بحضور الرئيس مادورو شخصيا، أعلن المجتمعون “دعمهم لشرعية الرئيس نيكولا مادورو”، وأن “حكومته حافظت على موقف ثابت في تقرير المصير وحيال العدالة الاجتماعية، وكانت ضد الإمبريالية والصهيونية والهيمنة العالمية”.
كذلك كانت فلسطين حاضرة في الختام بالتأكيد أن الفلسطينيين موجودون في الخندق الأول، كما هي الحال مع الكوبيين والفنزويليين.
في قصر ميرافلوريس
بعدما تجاوز الرئيس مادورو ما سمته السلطات هنالك “المؤامرة”، وصار رئيسا وأدى القسم، كان بروتوكوليا أن يلتقي مع ضيوفه، الذين قدموا من أنحاء المعمورة، وأن يتحدث إلى شعبه، وهو ما حصل.
أُبلغنا ونحن في الفندق أن هنالك لقاء مع الرئيس سيتم زوالا، استقللنا الحافلة بمرافقة أمنية مصغرة جدا، نحو شارع أوردانيتا، بحي ليبرتادور في العاصمة كاراكاس، حيث قصر ميرافلوريس أين يقيم الرئيس، الرحلة أخذت وقتا طويلا، خاصة مع التشديد الأمني الذي فرضته السلطات لمنع أي محاولة من المعارضة لتعكير الجو العام.
لا يظهر من البنايات في محيط “قصر ميرافرويس” أننا في حي راق يكون أحد قاطنيه الرئيس شخصيا، بل حتى الإجراءات الأمنية عند مدخل قصر الجمهورية سلسة للغاية، فيكفي أن تستظهر الاعتماد الذي سلم لك سابقا للدخول.
الجو حار والحضور الكبير، زاد درجة الحرارة، هذا الجو شجع الوفد الروسي المشارك –الأكبر- على “احتلال” منطقة اليمين كلها للاستمتاع بأشعة الشمس، كان الحضور يتراقص على أغاني فرقة موسيقية محلية رغم التعب الذي نال من كثيرين.
في هذا الحشد البشري، يمكن لك أن ترى الفوارق بين الحضور، هذا لاتيني وآخر من السكان الأصليين لأمريكا اللاتينية، ونفر من “الراستا” وآخرون من الكاريبي، وجنس أبيض قادم من روسيا، وآخرون من شمالي المتوسط، عرب وأفارقة وجماعة من إيران، أحدهم كان يرتدي العمامة، أدى صلاته وسط المحفل الغفير، وسجد على الحجر وفق المعتقد الشيعي..
نحو الرابعة زوالا صعد الرئيس مادورو، مع عقيلته سيليا فلوريس –زوجته الثانية- ومعهما رئيس نيكاراغوا دانيال أورتيغا، ومما قاله في خطابه القصير نوعا ما: “الشعب عانى الخيانات من بوليفار وحتى تشافيز، وأنا سأبقى وفيا لمبادئ تشافيز”، وتابع: “أقسم بالشعب وبوليفار أن أكون مخلصا وأعمل على تحقيق العدالة والمساواة”، وأكد “أن الاشتراكية تحصين للجبهة الداخلية”.
لم يغفل مادورو التنديد بالدول التي يعتبرها مناوئة لبلاده، وذكر منها السلفادور والبرازيل، لكنه وجه التحية لمن سمّاها “الحركات المؤيدة له”، وقبيل أن يغادر المنصة خص فلسطين بالتحية والصحراء الغربية وهنا هتف “تحيا إفريقيا”.
للمرة الثانية مع مادورو
بعد 24 ساعة من تنصيبه رسميا وإلقاء خطاب النصر، دُعينا مجددا للقاء الرئيس، وهذه المرة في قاعدة “لاكارلوتا”، لم يكن اختيار اللقاء في هذه القاعدة العسكرية محض صدفة. ففي سنة 1992 كانت مسرحا للمحاولة الانقلابية للراحل تشافيز، وفي سنة 2019، كانت مسرحا كذلك لفشل المحاولة الانقلابية، التي قادها خوان غوايدو ضد مادورو، فالقاعدة تمثل قيمة رمزية كبيرة لـ”التشافية” ومناهضة الإمبريالية.
ظهر مادورو كما يحب بلباس عادي، أبلغ الحضور أن في يده ساعة أهداه إياها النجم الأرجنتيني مارادونا، جدد التأكيد أن بلاده “تمارس سيادتها” وأنه “أقسم على تحقيق السلام والازدهار، والمساواة والديمقراطية”.
وتوجه بالحديث لخصمه أوروتيا واصفا إياه بـ”تاجر المخدرات الذي يطالب بتدخل عسكري”، وقال له: “أنا انتظرك في ساحة المعركة، تقدم أنت لماذا تدفع بالآخرين أيها الجبان”، وكان أوروتيا قد شد الرحال إلى الأرجنتين، وقبلها أمريكا. وخاطب الأوروبيين قائلا: “ما فعله الأوروبيون أسوأ من الفاشية، أوروبا قامت بجرائم ممنهجة للقضاء على المدنية والثقافة في هذه الأرض، الأوروبيون لا يحبون أن يسمعوا حقيقتهم”.
بلد يتجاوز محنته
تُصنف فنزويلا أنها تمتلك أكبر احتياطيات من النفط في العالم بواقع 303.5 مليار برميل، لكنها عانت في السنوات الماضية من “انهيار اقتصادي” كبير بسبب العقوبات الغربية عليها، لكن الدولة تمكنت من الخروج من أزمة التضخم الجامح، بعد القيام بتعديلات كبيرة في السياستين المالية والنقدية، وتخلصت فنزويلا من المرتبة الأولى في قائمة أعلى معدلات التضخم حول العالم لصالح الأرجنتين في نهاية العام الماضي، مع تباطؤ وتيرة ارتفاع الأسعار في الأولى وتسارعه في الأخيرة، وتسعى السلطات للحفاظ على حالة التعافي الاقتصادي، منذ التغلب على التضخم الجامح في عام 2022.
من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة تخفيف القيود على العملة، مع تقليص التدابير المقيدة للواردات، وتشجيع التحول غير الرسمي للدولار للسيطرة على التضخم، وأصبح الدولار العملة المفضلة في فنزويلا خلال السنوات الماضية، وتمثل العملة الأمريكية جزءًا كبيراً من المعاملات اليومية في البلاد، والآن يساوي 1 دولار 53 بوليفار، وواحد يورو يعادل 55 بوليفار.
الدفع بالدولار كان حتى في الندوة الدولية لمكافحة الفاشية والإمبريالية، حيث كانت الفرصة لتسويق منتجين مهمين من فنزويلا، الأول “القهوة” والثاني “الشوكولاطة” المصنوعة من الكاكاو المحلي. الصور الأخرى لأحد مظاهر الإمبريالية خلال الندوة، تقديم مشروب “كوكا كولا” حتى إن المياه المعدنية من ذات الشركة تحت اسم “نيفادا”.
عاصمة مثيرة للدهشة..
المتجول في شوارع العاصمة كراكاس، تتلاشى عنده “صورة البلد المنهار”، فلا طوابير هنا عند محطات الوقود، والأدوية متوفرة لحد كبير في الصيدليات، والمحلات عامرة بما في ذلك المنتجات الكمالية.
في فنزويلا لست مضطرا لأن تحمل حقيبة مملوءة بالأموال لاقتناء بعض الحاجيات، هذا لا يعني أن الأسعار غير مرتفعة، لكن ليس بالحد الذي كان في السنوات الماضية وليس كما يعتقد كثيرون، قارورة المياه بين 0.90 و1 دولار، وعلبة قهوة 250 غرام بين دولارين إلى 3 دولارات، وتصل 12.5 دولار لعلبة 500 غرام للنوعية الأكثر جودة في البلاد وهي علامة paramo، وسعر الشوكولاتة الفاخرة بين 5 و7 دولارات للعلبة.
عاصمة البلاد لا تختلف عن أي عاصمة أخرى في العالم، فالحركية بعد “انتهاء تنصيب الرئيس” عادت إلى حالتها الطبيعية، وما يغري أكثر للسير في شوارع وأزقة المدينة اختلاف معمارها بين الهندسة الإسبانية والمعمار الحديث، المعروف بالعمارات المرتفعة، الأمر الأول لطافة الجو. فرغم أن الحرارة تصل 28 درجة شهر جانفي، إلا أن الرطوبة منعدمة، والأمر الثاني الاخضرار في كل مكان، وعندما ترفع رأسك إلى السماء تر مشاهد لم تكن تراها إلا في “ناسيونال جيوغرافيك” وهي أسراب الببغاء.
في كراكاس وغيرها من المدن بفنزويلا، لن تخشى على نفسك لأن بشرتك مختلفة عن السكان الأصليين، كما لا تخشى المحجبة من نظرات الآخرين لها، أو تخشى أن تؤدي صلاتك وسط الحشود، فالسماح وقبول الآخر سمة لدى السكان هنا، وكل من يقابلك يلقي عليك التحية.
خلال تجولك في منطقة أل ريكريو في كاراكاس، يقابلك مسجد إبراهيم بن عبد العزيز الإبراهيم أو مسجد كاراكاس هو أكبر مسجد في أمريكا اللاتينية بعد مركز الملك فهد الثقافي الإسلامي في بوينس آيرس، غالبية المسلمين هنا من المهاجرين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين.
الأمير عبد القادر وعرفات.. “الحياة هي المقاومة”
بعد جولة مطولة كانت الوجهة ضريح المؤسس سيمون بوليفار المعروف باسم “ليبرتادور” (المنقذ)، يقع الضريح في الحي الاستعماري في العاصمة الفنزويلية ويضم في الطابق السفلي نعش الجنرال الشهير المصنوع من خشب الماهاغوني المرصع بالأحجار الكريمة والموضوع على قاعدة من الغرانيت. ويمكن الوصول إليه عبر رواق متصل بمجمع عظماء الأمة الواقع في كنيسة من الطراز القوطي الجديد عائدة إلى القرن التاسع عشر.
في ساحة الضريح، تجد ما يسرك، إنه تمثال الأمير عبد القادر، وكتب فيه بالعربية: “الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية المعاصرة.. المدافع عن الحرية الداعية إلى ترقية القانون الإنساني وحقوق الإنسان”، وبجنبه تمثال آخر للشهيد “ياسر عرفات”.
في هذا البلد تقدير الشخصيات الثائرة والمقاومة أمر لا اختلاف فيه، ففي الحشد الذي اصطف للاستماع للرئيس مادورو غداة تنصيبه، كان يتم توزيع بوسترات لشخصيات راحلة من ذلك الشهيد يحيى السنوار والشهيد حسن نصر الله، والرئيس الراحل هوغو تشافيز، وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الذي اغتالته الإدارة الأمريكية قاسم سليماني، وتحت البوستر نقرأ: “الحياة هي المقاومة”.